ستفشل حتمًا أي خطة اقتصادية تتصادم مع ثقافة المجتمع، ومنظومة قيمه، وطبيعة هيئاته وتنظيماته التي تكونت عبر تاريخ طويل. هذه قاعدة جُرِّبت في بلدان كثيرة وانتهت غالبًا إلى النتيجة الواضحة أمامنا عيانًا بيانًا.
علينا أن ندرس كيف يبدع المصري فردًا، إن وجد المناخ المناسب للعمل، ولماذا يتحول إلى طاقة من الكسل والتراخي في المشروعات العامة التي يشعر بعد فترة أنها تحولت إلى عِزبٍ خاصة للمسؤولين عن إدارتها.
إن هؤلاء لهم اليد الطولى من خلال لوائح تحميهم، وعبر تشكيل مجالس للإدارة يميل فيها ميزان القوة لصالحهم، وبعض اللوائح يصنعونها بأنفسهم. والقانون لا يضمن اعتدالهم وعدالتهم، والثقافة الجارية التي تجعل من إدارة بعض الهيئات الاقتصادية مكافأةَ نهاية خدمة للبعض، لا تلزمهم بتحقيق إنجاز. وبعضهم يكون بالفعل استنفد طاقته، ولا حافز لديه لإنجازٍ فرديٍّ يحققه، كحال الشباب وهم يبدؤون مسيرتهم المهنية، أو متوسطي العمر الذين يبحثون عن الترقي الوظيفي والإنجاز المهني والتحقق المادي.
هكذا تم إفساد القطاع العام وتدميره في بطء، ثم انهار بعضه، بعد أن زحفت إليه ثقافة التكية من ناحية، وتسلط الدولة من ناحية، وعدم وجود خطة حقيقية لمكافحة الفساد من ناحية ثالثة.
من جانب آخر، علينا أن نعرف أننا مجتمع عرف عبر تاريخ طويل كيف يتضامن ذاتيًا بعيدًا عن السلطة وتحكمها في إدارة الاقتصاد لتسيطر على المجال العام كله. ولذا فإن جريان النقود في أيدي الناس، في دورة مالية سريعة وحرة، يساعد في إنعاش أحوال النسبة الأكبر من الشعب، ويساعد في توسع القوى الاقتصادية وتعددها، وهو أمر مهم لأي تعددية سياسية يمكن بناؤها في المستقبل.
لا تعددية سياسية في ظل احتكار طرف واحد لمال الشعب، وتحكمه به وتصرفه فيه وكأنه مال خاص، باسم "المنفعة العامة" أو "المصلحة العامة" أو "مقتضيات الأمور"، فهذا ما نعيشه الآن، وثبت أنه مسار كارثي.
علينا أن نعرف مغبة الاحتكارات الكبرى التي نفذتها السلطة في العقد الأخير لضمان سيطرتها على الاقتصاد، بما يُمكِّنها من حيازة الركيزة الكبرى التي تطلق يدها في السياسة والأمن وإدارة المجتمع وإعادة تشكيل قيمه وفق هواها.
لا حل سوى بإنهاء الاحتكار، وإطلاق التشغيل على أوسع نطاق، ليُشمِّر المصريون، الذين أُخرِجوا من الاقتصاد وأغلقوا مئات آلاف المشروعات الصغيرة والمتوسطة، عن سواعدهم، وينزلوا إلى الميدان لإنقاذ مصر، التي تباع الآن مشروعاتها الكبرى بالتجزئة، وبلا توقف.
لتضع الدولة خطة عامة نابعة من دراسة أحوالنا جيدًا، يشارك في إبداعها كثيرون بعد نقاش واسع مطول عميق، ولا تفرض علينا تصورًا مستعارًا من التاريخ أو تجارب أخرى لا تلائم ظروفنا، ثم تطلق يد الناس في تنفيذها، كل وفق ما يتخصص فيه بحسب خبرة أهل كل منطقة وطبيعة مواردها. لتكن مثلًا: صناعة الأخشاب لأهل دمياط، ومعاصر الزيتون لأهل سيناء، وتصدير الرمان لمنفلوط. لنعمل بنظرية "خلية النحل"، والمصريون جاهزون لذلك، بل متعطشون.
هنا يجب أن نقول، ودون مواربة، إن البيئة الضاغطة على أعصاب الاستثمار، التي جعلت كثيرًا من المشروعات الخاصة الناجحة تغلق بابها، أو تخرج من مصر، لا بد أن تتغير، الآن وليس غدًا، وإلا استمر هروب المصريين بمشروعاتهم إلى الخارج.
موسم الهجرة إلى الرياض
لقد رأينا في الآونة الأخيرة إحصاءات تتحدث عن أن المصريين يشكلون نسبة معتبرة من حيث عدد (وليس قيمة) الاستثمارات التي تلقتها المملكة العربية السعودية. وبدا الأمر على أنه هروب لرجال أعمال مصريين، بعضهم صغار وعلى أول الطريق وليسوا بالضرورة من أصحاب الثروات الطائلة كآل ساويرس.
سيسأل سائل: هل هذا هروب؟ وهل المستثمرون المنتمون إلى بلاد أخرى وذهبوا إلى السعودية هاربون أيضًا؟ الحقيقة التي تعبِّر عنها التقارير والدراسات الاقتصادية عن مصر مؤخرًا تقول إن القطاع الخاص تقلَّص، ويواجه قيودًا شديدة، وكثير من مشروعاته تفشل، والبيئة الاستثمارية باتت طاردة، فمن ذا الذي يدفع أمواله إلى بلد لا يثق في اقتصاده، وعملته غير مستقرة، والكهرباء تنقطع فيه يوميًا؟
نعم، بعض المستثمرين المصريين الكبار يتوسعون، لكن الأغلبية تهرب فعلًا، وهذا ما يعرفه كثيرون من خلال صِلاتهم المباشرة مع رجال أعمال، لا يجدون الدولار اللازم لاستيراد مستلزمات الإنتاج بسبب القيود التي فرضتها السلطة على التحويلات بدعوى ضبط سوق العملات الصعبة. فكيف يمكن لهؤلاء البقاء والعمل في مصر، فضلًا عن المنافسة في ظل احتكار اقتصادي معروف لنا جميعًا؟
وحتى رجال الأعمال المصريين الذين يتوسعون سمعنا بعضهم يشكو، ويبرر مغادرته مصر إلى السعودية، على رأسهم سميح ساويرس، ويومها هاجمه إعلام السلطة بضراوة. وهناك غيره ممن غادروا بمئات الملايين من الدولارات دون ضجيج.
نعم وفَّرت السعودية بيئة جاذبة للاستثمار، لفتت انتباه رجال أعمال وطامحين من دول كثيرة، لكن العدد الأكبر من المستثمرين المصريين الذين ذهبوا للسعودية كانوا هاربين فعلًا، على العكس من غيرهم. وسمعنا مثلًا كيف تقدِّم الرياض تسهيلات لمستثمرين مصريين، حتى في مجال نشر الكتب، بينما يواجه هؤلاء صعوبات في مصر وهم لا يجدون الدولار لاستيراد الورق، فما بالنا بالأعمال الأخرى؟
لا أتحدث هنا عن السعودية باعتبارها نموذجًا اقتصاديًا، لكنها المكان الذي جذب جزءًا كبيرًا من رأس المال المصري الخاص في السنوات الأخيرة.
لا بد أن يتوقف هذا النزيف الاقتصادي، ويُستعاد من ذهبوا، لا عنوة، ولا على أجنحة الشعارات التي تدغدغ المشاعر، فرأس المال جبان، وهناك من يرى أن "لا وطن له". لكن بتهيئة المناخ المناسب لهذه العودة، فيتأكد هؤلاء أنهم سينجحون هنا، وهو لن يحدث إلا بإنهاء الاحتكار، وتسهيل الطريق للحصول على مستلزمات الإنتاج، ناهيك عن إنهاء المشكلات المزمنة مثل الإجراءات المعقدة والقوانين المقيدة والفساد الإداري للدولة.
وطبعا لا يمكن أن ننسى في هذا المقام أن هناك شقًا سياسيًا من هذا المناخ الجاذب للاستثمار الأجنبي، غير العربي تحديدًا، حيث لا يفضل هؤلاء بالطبع غلبة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، والضيق بالتشكيل النقابي والمجتمع المدني عمومًا، وغياب حرية التعبير.