مع حلول عام 1984 لم تكن مصر بأفضل حال؛ الديون متراكمة والمجال السياسي متأزم على وقع كامب ديفيد واغتيال السادات، والدولة والقوى السياسية عاجزون عن الاشتباك الجدي مع معضلات الواقع المادية، حتى وإن أُجريت انتخابات تشريعية في ظل ديمقراطية سلطوية مقيدة.
في ذلك العام، كان العالم على موعد مع دورة جديدة للألعاب الأولمبية في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، غاب عنها الاتحاد السوفيتي وبقية دول الكتلة الشرقية، ردًا على مقاطعة المعسكر الغربي دورة الألعاب السابقة (موسكو 1980)، احتجاجًا على الغزو السوفيتي لأفغانستان في 1979.
حينها كانت مصر غائبة عن منصات التتويج الأولمبي منذ 24 عامًا كاملة؛ منذ حقق عثمان سيد فضية المصارعة الرومانية وعبد المنعم الجندي برونزية الملاكمة في أولمبياد روما 1960. أما على مستوى التتويج الذهبي؛ فلم يُعزف السلام الوطني المصري منذ أولمبياد لندن 1948، حين فاز محمود فياض وإبراهيم شمس بذهبيتي رفع الأثقال.
وبعد ربع قرن من الغياب عن الميداليات الأولمبية، يتمكن أخيرًا محمد رشوان من الوصول إلى المباراة النهائية لمنافسات الوزن الثقيل في الجودو، لتصبح مصر على أعتاب الفوز بميدالية ذهبية غابت طويلًا.
يلتقى رشوان في النهائي بالبطل الياباني المحبوب ذائع الصيت ياسهيرو ياماشيتا، بطل العالم لخمس سنوات متتالية، الذي دخل المباراة وهو يعرج حرفيًا؛ فقدمه اليمنى مصابة وملتوية. يرفض رشوان استغلال هذه الإصابة ويقرر ألا يهاجم قدم البطل الكبير المصابة وكأنها غير موجودة.
يفوز ياماشينا المصاب بالذهب ويحصل رشوان على الفضة، لكن قصة لقائهما ستتحول إلى مَثل وقدوة لعقود. خسر رشوان ولكنه فاز بتقدير اليابانيين الذين يعتقدون أنهم الأرفع أخلاقًا بين الشعوب، حتى أنهم عينوه في فترة من الفترات مسؤولًا عن قطاعات الناشئين لرياضة الجودو في اليابان.
بعد هذه القصة بخمسة وعشرين عامًا، التقيت في أستراليا رجلًا يابانيًا في دوائر أصدقائي، وكان ذلك وقت أولمبياد بكين 2008. وفي إطار التعارف الذي يبحث عن أمور مشتركة، وجدته يستدعي قصة رشوان وياماشيتا. وقتها تعجّب الأصدقاء الأستراليون الموجودون في الجلسة من وجود قصة مشتركة تجمع بين مصري وياباني لا يعرفون هم عنها شيئًا، مجسدين بذلك استحقاق المركزية الأوروبية كما يجب أن يكون.
.. وبعد أربعين عامًا
بينما كانت جائحة كورونا في 2020 تحصد أرواح الآلاف، ولاحقًا الملايين، في مصر والعالم قبل ظهور الأمصال الأمريكية والأوروبية والصينية، صرحت النجمة ياسمين صبرى، وهي تلمع فوق السجادة الحمراء، بأنها لا تخشى هذا المرض ولا تكترث به، وأنها ستواصل الحياة في ظل تهديده، لأن الجميع سيصاب به بطريقة أو بأخرى. وعليه "فاللي ياخده ياخده واللي يكمل يكمل والبقاء للأقوى".
تصريح ياسمين صبرى هذا، وبأي معيار، تصريح نازي لا يعتذر عن نفسه، لكنه مر بسهولة لا تتناسب مع مدلولاته الإجرامية. والسواد الأعظم من الناس لم يأخذوه بالجدية اللازمة، ربما لأن ياسمين امرأة أجمل من أن تؤخذ بجدية، وهذه هي الطريقة التي يصيغ بها مجتمعنا نظرته للجميلات. لكنني لست كذلك، لم أرَ في تصريحها خفة الجميلات بل شرور الإنسان المتعالي بوجوده على البشر، وفي وعيه العالم ليس إلا غابة البقاء فيها فقط للأقوى، وليس للأصلح.
وفي نفس المرحلة من التاريخ، تعي شابة تُدعى شهد سعيد العالم وهي في مصر، حيث البقاء للأقوى. عمر شهد اليوم 22 سنة، وهي تمارس رياضة برجوازية لا يقدر على تكاليف ممارستها عوام الناس؛ سباقات الدراجات.
ينتشر لشهد فيديو وهي تدهس بدراجتها عمدًا ومع سبق الإصرار زميلتها جنة عليوة، فتُسقطها وتصيبها بعدة كسور. يثير انتشار الفيديو ضجة كبيرة. ترد شهد في البداية بأن جنة هي من حاولت دهسها أولًا، ثم لاحقًا تقول إن الحادث لم يكن متعمدًا وإنها اعتذرت لجنة، التي رفضت اعتذارها.
ربما لن نعرف أبدًا القصة الحقيقية وراء صراع اللاعبات هذا، وعلاقة اتحادهن الرياضي به. لن نعرف التفاصيل التي تصوغ معايير الكفاءة والجدارة، ولن نعرف كذلك حجم المحاباة أو الفساد، ولا تلك الروح السائدة بين ممارسي لعبة رياضية تنتهي بهم إلى حد الإيذاء البدني المباشر الذي قد ينتهي بالإعاقة.
لن نعرف ذلك كله، مثلما لن نعرف القصة الحقيقية لغادة والي، التي سرقت تصميمات فنان روسي ونسبتها لنفسها، ثم ظهرت في الإعلام بمظلومية، وهي تشكو من حزب أعداء النجاح الذي تتهمه بمحاربتها.
القاسم المشترك بين كل تلك القصص أن أصحابها يشعرون بالظلم حين يتم مواجهتهم بما فعلوه، وكأن هناك ما هو خفي وأبعد لا يتم الإفصاح عنه، وتفاصيل أشد لعنة مما يطفو فوق الصورة اللعينة المعلنة بالفعل.
لكن ربما ما نعرفه جيدًا في هذه اللحظة أنه لم يعد مجازًا أن نقول إن "جميع القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب" كما كتب نجيب محفوظ في قصة الجريمة. وأن مستويات من العنف والبلادة والجهامة أحكمت سيطرتها على وجدان كثيرين من شباب هذا الزمن، لأنهم نشأوا في عالم يخبرهم أن البقاء للأقوى، وأن اللص ليس من يسرق ولكن من يفتضح أمره أو يُرفع الغطاء عنه من قبل سلطة عليا.
القوة فوق الجميع
أصبح الاغترار بالقوة ونيل العطف والرعاية من أصحابها هو المدخل الوحيد للنجاح، تتمجد القوة المحضة في وعي الجميع حتى المسحوقين منهم، أضعف الضعفاء يستمع إلى أغنيات تشحذ وتتوهم القوة الغاشمة تحت شعار "أنا مش شايفك". أصبح معيار التحقق هو أن تنجح بحيث لا ترى الآخرين من الأصل.
لكن حتى لو كان ذلك مجرد فانتازيا لبائسين لا يراهم أحد أو يسمع عنهم بالفعل، فإن هذه فانتازيا تعبر عن مردود لواقع لا ترى السلطة فيه الناس إلا كموضوع للسيطرة والإخضاع والإذلال، هذا لو رأتهم من الأصل. نحن لا نريد أن نرى بعضنا البعض، لأن المشهد سيكون بشعًا ومخيفًا.
في هذه البيئة، يمكن لرياضيين أن يدهسوا بعضهم البعض بدرجاتهم وهم يمارسون رياضة برجوازية لا تستطيع ممارستها إلا أقلية في هذا البلد. وفي ذات الوقت يشعرون بالظلم والغبن الشديد، وكأن هناك من يتربص بهم ليعطل مسيرة نجاحهم الخفاق. الكل يشعر بالظلم حتى أصحاب الامتيازات، لأن رائحة الظلم يشمها الجميع في نسمات الهواء كل يوم.
لذا لا مانع من أن نصبح جميعنا ظَلَمة لنبقى على الأقل، أو أن نتحول من طور الزريبة إلى طور الغابة على حد تعبير ذكي وقاسٍ لصديقة عزيزة. وصفة لاستمراء الخنزرة والجربعة، بحيث أصبح شعار سعد باشا زغلول "الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة" شعارًا بعيد المنال.
وجه شهد البارد وهي تبرر ما حدث، نحته العصر الحالي وقيمه التي ترسخت عبر عقدٍ من الزمان، وُلد وترعرع في كنفه جيل جديد، يتم ابتزازه كل يوم بأن حاله أفضل من سوريا والعراق وغزة، أو بمعنى أصح: احمدوا ربنا أنكم لا تزالون على قيد الحياة.
فلماذا لا يعتاد هذا الجيل الجريمة دفاعًا عن وجوده؟