إحدى مباريات الأهلي والزمالك في الدوري المصري في أربعينيات القرن العشرين

اتحاد بلا وثائق.. كيف يحكي مؤرخ الكرة قصته؟

منشور الجمعة 2 أغسطس 2024

الجهة المسؤولة عن نشاط كرة القدم في مصر هي اتحاد الكرة. يعني ذلك أنه الجهة التي عليها تولي مسؤولية توثيق تاريخ اللعبة، من خلال جمع وأرشفة المادة الخام المتمثلة في المعلومات الأساسية الرسمية الخاصة بالمسابقات المختلفة، مثل نتائج المباريات واللاعبين المشاركين والذين صنعوا أو أحرزوا الأهداف وما إلى ذلك، لكن هذا لا يحدث، ولا أدري كيف تسير الأمور هكذا دون أن يشعر أحدٌ بأننا نفتقد أمرًا بديهيًا!

لكن تقاعس اتحاد الكرة عن أداء مهمته لا يعني فراغًا تامًا في هذا الشأن، فقد شهد العقد الأخير نشاطًا ملحوظًا لأفراد كانوا مهتمين بسد هذا النقص، أبرزهم ربما خالد جمال أبو العيون، الذي يعد مرجعية للناشطين في هذا المجال، وتأتي من بعده أسماء قليلة، أخشى ذكر بعضها خوفًا من نسيان الآخر.

السؤال هنا: إذا كانت السجلات الرسمية لا توفر شيئًا تقريبًا، فمن أين يأتي مؤرخ الكرة بمادته؟

الواقع أن هناك خلطًا كبيرًا وفوضى عارمة، جعلت من الممكن ملء الفراغ بأي أساطير أو خرافات أو ذكريات مشوشة عند البعض. وصار بإمكان الكثيرين تقديم معلومات ما أنزل الله بها من سلطان، وليكون كلامنا محددًا، دعنا نستعرض المصادر التي يعتمد عليها الكثيرون، ونفكر في مشكلة كل مصدر منها.

أولًا، الشهادات الشخصية؛ وهي تشغل حيزًا كبيرًا في السوشيال ميديا. ومع سهولة التصوير وزيادة الانتشار، أصبح معتادًا أن يصادفك فيديو يحكي فيه أحدهم لبضع دقائق حكاية ما، يقول إنها حدثت معه أو شهدها بعينه. ولأن الأغلبية لم تحضر بالتاريخ، ولأنه لا توجد مرجعية تمكِّنهم من توثيق الحكاية والتحقق من صحتها، تنتشر سريعًا خصوصًا إذا وافقت هوى فئة من المشجعين.

هذه الشهادات الشخصية ليست بالضرورة مغرضة، وإن كان كثير منها كذلك، ولكن الذاكرة البشرية خوَّانة، وحتى إذا صحت فلا يمكن لأحد الإحاطة بتفاصيل كل حدث شارك فيه. قد لا يكذب الشاهد عامدًا، كل ما هنالك أن الحادث استقر في ذهنه على هذا النحو.

من ثَمَّ ينبغي للمؤرخ أن يكون حذرًا وهو يتعامل مع تلك الشهادات، وإن كانت محل اعتبار، لكنها لا يمكن أن تكون المصدر الأساسي أو الوحيد. قد تصلح للاستئناس والاسترشاد أو توثيق سردية طرف من عدة أطراف. فضلًا عن أن استقاء المعلومة من المصدر يتطلب أن يكون المُحاوِر على دراية كافية بالموقف المذكور لأن هذا يساعد على تنشيط ذاكرة المصدر، ومراجعة ما قد يكون اختلط عليه، لا يأخذها على علاتها.

بات من الضروري أن تكون هناك جهة ولو خاصة تتولى شؤون تأريخ الكرة

ثانيًا، مدونات اللاحقين، وهو تعبير من اختراعي لوصف ما يكتبه عن تاريخ الكرة من لم يعاصروا ما يكتبون عنه، ودعنا هنا نذكر بعض الأمثلة.

بعض الصحف، الرياضية بالذات، تخصص مساحات لاستعادة ملامح من التاريخ، كأن تقام مباراة نهائي كأس مصر مثلًا، فتستعرض الصحيفة تاريخ لقاءات النهائي، ثم يتحول ما ذكرته الصحيفة بمرور الزمن إلى مصدر للمعلومة. وبمناسبة كأس مصر، فقد ظللنا عقودًا نتناقل معلومة أن نادي المختلط هو أول بطل للمسابقة عندما هزم شرودرز الإنجليزي في النهائي، هذه المعلومة كانت نتيجة خلط عند كاتب مدونة ما، والآن نعلم يقينًا أن المختلط فاز على الاتحاد السكندري، ولم تكن هناك أندية أجنبية مشاركة في المسابقة.

يدخل ضمن هذه المدونات الكتب الصحفية، والنشر الإلكتروني، والتقارير في البرامج الرياضية وغيرها من طرق النشر الشبيهة. وهذه المدونات تتفاوت في مدى الاعتماد عليها مصدرًا للتأريخ طبقًا للمنهجية التي يتبعها المدون. فبعض هذه المدونات تسد فراغًا بالفعل نتيجة الجهد البحثي لصاحبها، بينما الكثير منها هو حواديت تقل أهميتها حتى عن الشهادات الشخصية، لأن حجم التدخل الشخصي فيها يزيد من المصدر للناقل.

ثالثًا، وهذا هو المصدر الأهم، تغطية الصحف للحدث عند وقوعه. هذه التغطيات هي الوثائق الأهم والأكثر مصداقية، وفي غياب السجلات الرسمية يمكنها تعويض جانب كبير منها. فهذه التغطيات صدرت ليقرأها معاصرون حيث تقل احتمالات التدخل، كما أنها مكتوبة، فلا أثر للزمن ولا إمكانية للتداخل أو التشويش أو الشوشرة، فضلًا عن أنها تصدر في وقت لا يكون الحدث فيه قد تشكل وأخذ أبعادًا تؤثر في تشكيل السردية.

غير أن هذا لا يعني أن تغطيات تلك الصحف صالحة للاعتماد عليها دون مراجعة، وإن كانت أوثق من غيرها. لكن يبقى فيها عدد من المشكلات على المؤرخ الانتباه لها، ويمكننا الحديث هنا عن أبرزها، وهو مدى حرص الصحيفة (والصحفي) على تقديم المادة الخام.

مثلًا، عندما نقارن تغطيات نجيب المستكاوي للمباريات بنظيرتها لدى عبد المجيد نعمان، تكتشف بسهولة أن نعمان أوثق من المستكاوي بدرجة كبيرة، فالمستكاوي كان لديه حس شعبوي، عكس ما اشتهر به كونه المثقف الذي يكتب في الكرة. هذا الحس الشعبوي جعله يهتم بالبلاغة على حساب المعلومة، وبجماليات الكتابة على حساب الدقة، وبالجانب التحليلي على حساب الوصف.

كثيرًا ما نطالع تغطيات للمستكاوي على مساحات شاسعة من الصفحة، دون أن تعرف ماذا جرى، فاللاعبون لهم ألقاب خاصة به، درجات اللاعبين حسب اهتمامه بهم، وقد لا يسجل مشاركة للاعب أصلًا، وربما لا تعرف من وصف الهدف من سجله بدقة، كما أنه لا يراجع معلوماته، على العكس من ذلك كان نعمان دقيقًا للغاية في تسجيل ما جرى تمامًا وبصورة رسمية وعلى نحو دقيق، ثم يحلل إن أتيحت الفرصة.

هذا الأمر يجعل الناشطين في التأريخ الرياضي يقسمون أرشيف الصحافة إلى أقسام يكاد يكون متعارفًا عليها حاليًا، فجريدة كذا في فترة كذا تهتم بكيت وكيت، وفي غيرها من الفترات لم تهتم، مثل جريدة المساء التي كانت حريصة تمامًا في السبعينيات على تسجيل بيانات المباراة من التشكيل ومن سجلوا الأهداف وخلافه، ثم تراجع ذلك بداية من الثمانينيات، حتى صارت مع الألفية الجديدة مثيرةً للشفقة، فلا معلومات ولا تحليل، فقط سد خانة.

بالطبع لا يمكن استيعاب كافة المصادر ومشاكلها في تلك المساحة المتاحة، فقط يتبقى أن نشير إلى أنه بات من الضروري أن تكون هناك جهة، ولو خاصة، تتولى شؤون تأريخ الكرة، من حيث الرسميات أو الفنيات أو حتى الحكايات والخلفيات للأحداث، بدلًا من كل هاتيك البعثرة.