كان العقد الثاني من القرن العشرين حاسمًا في بلورة الحركة الوطنية المصرية وتحديد توجهاتها ورسم تحركاتها على الأرض. لذا لم يكد يصل هذا العقد إلى نهايته حتى حدثت الهبة الكبرى التي عرفناها باسم ثورة 19، وهي الاحتجاجات الشاملة التي انطلقت في 1919.
ولكن إذا كانت الثورة هي لحظة العمل الأكثر وضوحًا، والأعلى صوتًا، والأشدّ جذريةً، فهي أيضًا نتاج عملٍ طويلٍ في مسارات متعددة. قد تبدو أول الأمر منفصلة لا رابط بينها، أو يبدو كل منها عملًا روتينيًا حال النظر إليه منفردًا منزوعًا من سياقه العام، غير أن الوصول لنقطة الذروة لم يكن ليحدث دون تشابك خيوط الحراك السابق لها. وفي نهاية أحد هذه الخيوط، سنجد اسم أحمد حشمت باشا.
حشمت كان أحد خريجي "مدرسة الإدارة العليا"، التي أصبح اسمها لاحقًا "مدرسة الحقانية"، قبل أن نعرفها اليوم باسم "كلية الحقوق". كان تعبير "المدرسة العليا" يطلق على الكلية أو المعهد، أي المستوى الجامعي من التعليم، ومدرسة الإدارة أو الحقانية كانت المفرخة الأولى لكوادر الدولة رفيعة المستوى كما هو معلوم.
كان حشمت متعدد الاهتمامات، وتولى مناصب مختلفة يبدو عجيبًا أن يشغلها الشخص نفسه. فإلى جانب إسهامه في كتابة دستور مصر الأول عام 1923، كان ناظرًا/وزيرًا للمعارف والمالية والخارجية، وقبلها مديرًا/ محافظًا لأسيوط والدقهلية، رغم أنه من مواليد كفر مصيلحة في المنوفية.
خلال عمله في وزارة المعارف، تولى ملفات مختلفة، إيمانًا منه بأن مفهوم التعليم لا يتوقف عند تلقين بعض الكتب للطلاب ثم اختبارهم، وهو الذي صك تعبير "التربية والتعليم" عندما اختاره عنوان كتاب أصدره بالفرنسية. صحيح أنه لم يُستخدم لتسمية الوزارة آنذاك، لكنه عَكَس منهج عمله؛ التربية ثم التعليم.
التربية هنا ليست مفهومًا أخلاقيًا أو مبادئ ما يجري فرضها على الأبناء وتنشئتهم عليها ومعاقبة المخالفين. بل كان مصطلح التربية أقرب إلى معناه الحرفي؛ هو التنشئة الساعية إلى التنمية، فجذر الكلمة كما نعلم "ربا" يشير إلى الزيادة المنتظمة، وهي هنا زيادة الوعي والحصيلة والشخصية.
من هنا كان سعي حشمت باشا لشمولية عملية التعليم من جانب، ومن جانب آخر تهيئة ما يساعد الطالب على التحصيل، وربط ذلك بالهوية الوطنية، وفق مفهومها السائد آنذاك. وفي إطار هذا يمكننا فهم الكثير من جهوده والربط بينها.
كان على المصريين الاختيار بين المنافسة في إطار الاحتلال أو الاكتفاء بالأنشطة الودية إلى أن ظهر اسم حشمت
من تلك الجهود إدخاله علامات الترقيم في الكتابة العربية. نحن نعلم أن واضع تلك العلامات هو أحمد باشا زكي، غير أن زكي باشا في مقدمة كتابه الترقيم وعلاماته في اللغة العربية، يذكر لنا أنه استنبط تلك العلامات بتكليف وطلب مباشر من حشمت باشا ناظر المعارف. ومن سياق حديث زكي باشا، يتضح وعي الناظر بأهمية هذه الخطوة في سياقها العام والشامل، فهي ليست خطوة إجرائية محضة، بل إن لها ما وراءها.
دشن الرجل نظام روضة الأطفال، ونظَّم تعليم الفتيات وطوَّره، وأدخل التدبير المنزلي والتعليم الفني وغيرهما من الفروع التي أصبحت لاحقًا تثير السخرية، بعد أن توقفت عن تحقيق المراد منها، وأصبحت عملًا صوريًا لا يضمن لصاحبه الوجاهة الاجتماعية.
كما أنه نظم بطولة كروية بين طلبة المدارس؛ كانت أقدم مسابقة "مصرية" في كرة القدم.
المقاومة بلَعِب الكرة
في ذلك الوقت، منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، كانت الأندية أغلبها أجنبية. وحتى الأندية المصرية القليلة لم تكن مصرية خالصة، لذا لم تكن هناك فرصة بطبيعة الحال لتأسيس "اتحاد مصري" لكرة القدم. فقط كان هناك الاتحاد المختلط، الذي أسسه أنجلو بولاناكي عام 1910، وهي خطوة لم تخلُ من فائدة للرياضة المصرية من حيث الممارسة والمشاركة، لا سيما الدولية. لكننا نتحدث هنا عن ممارسة اللعبة في إطار "وطني".
لم يكن متاحًا تنظيم منافسات بين المصريين على مستوى الأندية. ومع تنظيم الاتحاد المختلط عام 1913 أول بطولة كروية في مصر؛ كأس الأمبر زيالي، كان الخيار بين المنافسة في إطار الاحتلال أو التوقف عن المنافسات والاكتفاء بالأنشطة "الحِبِّية" الودية التي لا تحمل صفة الرسمية التي تساعد على التنظيم والتراكم، وتُحقق الشكل النموذجي للنشاط الرياضي وهو التنافس. إلى أن ظهر اسم "حشمت".
كان الرجل عضوًا في النادي الأهلي؛ أول نادٍ أُتيحت عضويته لعموم المصريين وفق ما يخبرنا الكابتن محمد لطيف وعبد الله رفعت في كتاب "الكورة المصرية"، وهو أحد المصادر النادرة للقليل الذي نعرفه عن تلك البطولة.
يخبرنا الكتاب أيضًا أن حشمت في تلك الفترة كان رئيس الجمعية العمومية للنادي، وفي محاولة للتغلب على مشكلة الغياب عن المنافسة إلا في سياق الأجانب، كانت "كأس حشمت" عام 1914.
قدم الرجل من ماله الخاص كأسًا فضية وجوائز مخصصة للفائز ببطولة لن يشارك فيها أجنبي. ولكن بطبيعة الحال لم تكن المنافسة بين أندية، فالمتاح فقط هو النادي الأهلي، بل لطلبة المدارس العليا، بمعنى أن الفرق المتبارية تمثل المدارس؛ الحقوق، التجارة، المهندسخانة، إلخ إلخ. لكن هذا لم يعنِ أن اللاعبين المشاركين هم فقط من الطلاب، بل سمحت لائحة المسابقة للخريجين أيضًا بتمثيل مدارسهم، لتوسيع قاعدة المشاركة.
في بداية انطلاق المسابقة، كان ضروريًا أن يكون اللاعب المشارك عضوًا في النادي الأهلي لإحكام الأمر من الناحية القانونية، كونه الجهة المنظمة، غير أن هذا عُدِّل بعد الاستقلال، وصار من حق الجميع المشاركة، مقابل رسوم رمزية تدفعها المدارس.
استمرت بطولة حشمت باشا نحو عشرين عامًا، لم تتوقف إلا خلال أحداث ثورة 1919 لموسمين ثم عادت للانتظام، وكانت لها شعبية البطولات الكبرى إلى جانب كأس مصر الذي انطلق عام 1921 باسم كأس الأمير فاروق، قبل أكثر من ربع قرن على انطلاق الدوري.
توفي حشمت عام 1926، وتوقفت بطولته عام 1932 بعد أن توسع إنشاء الأندية المصرية، وضمن الاستقلال للمصريين أن ينظموا مسابقات أنديتهم التي تستوعب لاعبيهم. ولكن يبقى في الذاكرة أن من فاز بلقب أول نسخة من أول بطولة "مصرية" في التاريخ، وصاحب الرقم القياسي في الفوز بها لاحقًا، كانت مدرسة الحقانية.