لا أدري من الذي أطلق هذا الادعاء ولا متى، لكن ما أعرفه أنه صار معلومًا بالضرورة. وهذا الادعاء هو أنَّ تزايد عدد "أندية الشركات" يأتي على حساب "الأندية الشعبية"، وهو ما أدى ويؤدي لتآكل شعبية اللعبة.
ربما أكون نوهت من قبل لعدم اقتناعي بذلك الادعاء، فدعنا نفصل الأمر هنا. عادة إذا سمعت أحدهم يردد هذا الحديث، أبادره بالسؤال: هل يمكن أن تسمي لي عددًا من الأندية الشعبية، وأخرى من أندية الشركات؟ وغالبًا غالبًا ما نسمع في الإجابة ضمن الأندية الشعبية المحلة مثلًا، وهو نادي شركة، بينما نسمع في أندية الشركات سموحة، وهو نادٍ شعبي.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك أندية لا يمكن تصنيفها بوضوح ضمن هذا التقسيم، مثل أندية المؤسسات لا سيما العسكرية، وأندية غائمة بين هذا وذاك مثل وادي دجلة والجونة، وغيرهما.
فلنُنحِّ إذًا تلك التقسيمة العتيدة، ونحاول إعادة التفكير في الأمر من نقطة الصفر ما استطعنا، لتحديد الموضوع، وأين المشكلة؟ وهل هناك حل؟
أرى أنَّ البداية ينبغي أن تنطلق من رسم خريطة عامة لمشجعي كرة القدم في مصر، ولا أظن أننا بحاجة لجهد كبير حتى نكتشف أنَّ عموم المشجعين يختارون بين الأهلي والزمالك، مع هامش ضئيل لا حضور له في الفضاء العام، من بؤر متناثرة تشجع أندية أخرى.
ثم إن هذه البؤر المتناثرة ليست خالصة أو صافية، فمن العادي جدًا أن تجد مثلًا مشجعًا لنادي المنصورة، لكنه أهلاوي أو زملكاوي، بل إنه أولًا أهلاوي أو زملكاوي والمنصورة اختياره الثاني، وهذا هو الحال مع أندية أخرى من تلك "الشعبية" كغزل المحلة والاتحاد والسويس وغيرها.
في تقديري، هذا هو المعوق الأول أمام تنامي أي شعبية لأي نادٍ، فنحن نضع الناس في كرة القدم، كما نضعهم في غالبية أمورنا، أمام ثنائية من خيارين، لنصل إلى الثنائية المريحة؛ الحق في مواجهة الباطل، والصح في مواجهة الغلط، فكل أهلي له زمالكه في المجالات كافة، من السياسة حتى تفضيل الصيف أو الشتاء، متجاهلين الخريف والربيع.
من أين تأتي الشعبية؟
لنفكر في هذا الهامش الضئيل، محاولين فهم تركيبته، آملين في تثبيته أولًا، وتوسيعه لاحقًا. الافتراض السائد هو أن الشعبية تنشأ فقط لعوامل جغرافية، استنادًا إلى جماهيرية الإسماعيلي في الإسماعيلية، والاتحاد في الإسكندرية، وهلم جرا. وبالطبع فإننا لا ننكر العامل الجغرافي كـ"أحد" عوامل الشعبية، وهذا في العالم كله، لكن هل تنشأ الشعبية فقط لهذا السبب؟
لو فكرت أندية مثل إنبي وزد في سؤال ماذا أُمثل ربما وجدت إجابة ونجحت في تحقيق بعض الجماهيرية
في الواقع لا، فالمتابع بدقة سيكتشف وجود قاعدة جماهيرية، مهما كانت صغيرة، لفاركو مثلًا، ومن قبله المقاولون العرب، ثم إن هناك شعبية ما لنادي وادي دجلة لا ترتبط بمنطقة وادي دجلة. في المقابل لا نجد أي شعبية في أسيوط لنادي بترول أسيوط، بالتالي علينا أن نسأل أنفسنا: من أين تنشأ هذه الشعبية؟
ربما تكون هناك إجابات متنوعة، على أنني أريد الآن التركيز فقط على عامل واحد، متاح للغاية لكنه غير مطروق؛ وهو تنمية جمهور نادٍ ما بقصدية، أي من خلال خطة عمل، فالأغلب في أنديتنا هي أنها لا تعمل على ذلك، إما لأنهم غير مهتمين، أو أنهم ينتظرون من المولى القدير أن تتنامى شعبية النادي تلقائيًا، كما تنمو الأعشاب في الحدائق.
ربما علينا هنا أن نتذكر حادثًا مشهورًا، عندما صعد نادي حرس الحدود للدوري الممتاز صيف 2002، وكان عليهم خوض أول لقاءاتهم أمام الأهلي في الخريف من العام نفسه، فأوفدوا كتبية من الجنود بملابس رياضية لتشجيع الفريق العسكري، ثم أحرز الأهلي هدفًا لتنطلق الكتيبة كلها بهتافات الفرح! المفاجأة الحقيقية كانت أنَّ المسؤولين فوجئوا!
فوجئوا لأن لا أحد يفكر ما الشعبية؟ وكيف تُصنع؟ وهل يمكن صنعها أساسًا أم أنها أمر فطري؟ أم هل يمكن أن تحدث بالأمر المباشر، أو بالشراء كما سعى ويسعى نادي بيراميدز مثلًا؟ لا أحد يفكر لكنهم ينتظرون النتيجة في الغالب.
"شركة" الترسانة
في محاولة للإجابة عن سؤال: هل يمكن للشعبية أن تُصنع؟ لدينا تجربة من التاريخ، ربما تكون مفيدة في هذا الصدد، وهي تجربة نادي الترسانة في عشرينيات القرن العشرين، الذي لا يتذكر كثيرون أنه استمر طويلًا الضلع الثالث للأندية المصرية الأقوى مع الأهلي والزمالك، بل إنه بالنسبة للبعض كان حاضرًا في ثنائية خاصة مع الأهلي، مقدمة على ثنائية الأهلي والزمالك.
الأمر الثاني الذي لا ينتبه له الكثيرون، هو أنَّ نادي الترسانة الذي حقق هذه الجماهيرية كان ناديًا مملوكًا لواحدة من أقدم الشركات في مصر؛ وهي الشركة المصرية العامة لورش الري "الترسانة"، كما لا ينتبهون إلى أنَّ شعبية النادي كانت مرتبطة بمنافسته على الألقاب، وحصده العديد منها، حتى أإنَّ أول لقبين للدوري ابتعدا عن النادي الأهلي، ذهب الأول للزمالك عام 1960 والثاني للترسانة عام 1963، دون أن ننسى أنَّ الهداف التاريخي للدوري المصري حتى اليوم هو مهاجم الترسانة الراحل حسن الشاذلي.
في عشرينيات القرن الماضي، رسم الميجور سلاوتر مدير الشركة خطة عمل لتنمية شعب النادي، ورغم أن الوقت كان مبكرًا على مثل هذا النوع من التفكير، لكنَّ الرجل عمل بكل الوسائل المتاحة أمامه وقتها من إعلام ورجال وخلافه، ولم يكن الأمر مجرد حملات إعلانية، بل كان عدة محاور، أولها إجابة السؤال: ماذا أُمثل؟
لو فكرت أندية مثل إنبي وزد في هذا السؤال الآن، لربما وجدت إجابة، فهي أندية تمتلك قاعدة ناشئين مميزة، وقادرة على إفراز نجوم كبار، من ثم يمكن العمل على ربط النادي بالأسرة المصرية، باعتباره يمثل الحلم، حلم النجومية. الأمر يحتاج خطة عمل بالطبع، نحن نتحدث فقط عن المفتاح.
هذا ما فعله نادي الترسانة في العشرينيات، عندما قدم إجابة عن هذا السؤال، بأنه ليس فقط ناديًا لشركة، بل نادي "العمال" عمومًا، مع ربط ذلك بصعود حزب العمال في بريطانيا عن قصد، من هنا تبنى النادي العمال كمفهوم أولًا، وبالفعل وصل النادي في سنوات قليلة للقمة.
لم يكن هذا كل شيء، فالتجربة تستحق التأمل من جوانب كثيرة، فقط نريد أن نقول إنه "ممكن". فقط عندما نريد.