أسفل البناية الواقعة على ناصية حارة ضيقة في مصر القديمة جلسنا، أخي وأنا، بصحبة أقارب أبي وأصدقائه لتلقي العزاء. تلك البناية التي قضى أبي بها معظم حياته، والتي اختبر فيها بداية ولعه بكرة القدم ونادي الزمالك، الذي كان يشجعه منذ نعومة أظافره.
على الكراسي المعدنية المبطنة بالقطيفة جلسنا نتسامر حول ذكرياتنا مع أبي بعد نهاية العزاء. تحدث أحد أصدقائه عن علاقته بجمال عبد الحميد، الذي لعب أولًا للأهلي قبل الانتقال للزمالك. تحدثوا أيضًا عن مهاراته الكبيرة مقابل غضبه الضخم، الذي خسر بسببه حلم حياته.
في الجلسة ذاتها، حكى آخر حكاية أبي في اللعب مع نادي الزمالك على مستوى الناشئين تحت 19 سنة، حيث كان يذهب يوميًا من مصر القديمة إلى ميت عقبة وحده أو بصحبة أصدقائه، لأن والده ترك أمه، قبل أن يكمل 6 أو 7 سنوات.
سنوات التألق الأولى
عام 2002، جلست في الشقة نفسها التي نشأ أبي بين جدرانها. في انتظار تحضير الطعام بحثت في تليفزيون النصر الصغير عن شيء يسليني، فوجدت مباراة الزمالك وغزل المحلة، لم أكن أعلم أنها مباراة في بطولة كأس مصر موسم 2002-2003.
رأيت وقتها مراهقًا صغيرًا أسمر البشرة، بجسد نحيف يركض بالكرة كأنها ملتصقة بقدميه. ركلة ركنية من جهة اليمين، تصل إليه داخل منطقة الجزاء، يمر بمهارة من المدافع الأول، ثم الثاني، ويركض في مواجهة حارس المرمى وآخر المدافعين، ليضعها من فوقهما بمزيج من المهارة والتهور، ليحرز هدفه الأول مع فريقه، ويقول المذيع "شيكابالا بيعمل إيه؟ بيجيب جون".
كان وقع الاسم غريبًا، شيكابالا. تساءل أحد أقارب أبي "هو الزمالك جاب لاعب أفريقي جديد ولا إيه؟". لم نكن نعرف وقتها أن الشاب الصغير ذا الـ 16 سنة هو محمود عبد الرازق، الذي جاء من أسوان وعمره لم يتجاوز العشر سنوات للعب في صفوف الزمالك.
أخذ شيكابالا الاسم عن أخيه عبد الباسط عبد الرازق، الذي كان يلعب هو الآخر في صفوف نادي أسوان. والاثنان أخذا الاسم تيمنًا باللاعب الزامبي ويبستر شيكابالا، الذي اشتهر اسمه في مصر بعد مشاركته مع منتخب بلاده في مباراة ودية ضد مصر عام 1994، التي فاز بها المنتخب الزامبي برباعية نظيفة.
عاش شيكابالا بعيدًا عن عائلته في سكن المغتربين التابع لنادي الزمالك منذ وصوله. يذهب الفتى الصغير إلى النادي للتمرين، ثم يعود إلى السكن ليأكل وينام. وهكذا قضى وقته في تلك الفترة بين الوحدة وكرة القدم، حتى التقطه أحد مدربي الفريق الأول، ولعب معهم مباراة غزل المحلة في كأس مصر، وأحرز هدفًا مميزًا للغاية.
لم يتمكن من ارتداء الفانلة الحمراء أبدًا ولم يشعر بالراحة داخل جدران الأهلي
توهجت مسيرة شيكابالا الكروية مبكرًا فانتقل من الزمالك إلى باوك اليوناني عام 2004. تألق لدرجة أن هتفت جماهير باوك باسمه، وأنه هو ريفالدو الحقيقي، حيث كان النجم البرازيلي المونديالي يلعب وقتها في فريق أولمبياكوس. في ذلك الوقت عاد شيكابالا إلى مصر، ولم يتمكن من المغادرة بسبب طلبه في التجنيد.
عام 2005، وبعمر الـ 18 سنة، ذهب شيكابالا إلى مسؤولي نادي الزمالك، ولم يقابله أحدٌ، فاستغل المهندس عدلي القيعي، مسؤول التعاقدات في إدارة النادي الأهلي، ذلك التجاهل من نادي الزمالك، وسعى إلى ضم الناشئ شديد الموهبة إلى الأهلي. وافق شيكابالا على مضض.
نزل إلى ملعب مختار التتش متباطئًا، مرتديًا فانلة بيضاء، لم يتمكن من ارتداء الحمراء أبدًا، لم يشعر بالراحة داخل جدران النادي الأهلي، وعندما طالبه رئيس الزمالك في ذلك الوقت ممدوح عباس بالعودة إلى النادي، اتفق مع إدارة النادي الأهلي على فسخ التعاقد بالتراضي، ثم عاد إلى الزمالك.
تأثير راشمون
حكى أبي نسخًا مختلفة من قصة تركه لنادي الزمالك، لكنها ظلت قصة أشبه بأحجية، ينطبق عليها مفهوم تأثير راشمون/Rashmon effect، الذي ظهر في فيلم الياباني أكيرا كوراساوا عام 1950، الذي يحكي قصة محارب الساموراي وزوجته مع المتشرد الذي قابلاه في الغابة، والزوجة والمتشرد وعفريت محارب الساموراي يرون ذات القصة بثلاث وجهات نظر مختلفة.
حكى أبي قصته مع ترك نادي الزمالك بنسخ مختلفة، لكن الرابط فيها أنه لم يقبل الإهانة. فمرة قال إن أحد زملاء أبي مرر الكرة من بين أقدام أحد أمهر لاعبي الزمالك الكبار خلال "تقسيمة"، فما كان من الأخير إلا أن صفعه على وجهه، وقال "مفيش لعب يا ولاد الكلب، اطلعوا بره الملعب"، فانتفض أبي غضبًا وتشاجر مع اللاعب الكبير، ليفاجأ أبي في اليوم التالي بطرده من النادي.
حكى أبي تلك القصة عشرات المرات كما ذكرت سابقًا، بترتيب مختلف للأحداث وإهانات مختلفة يوجهها كل مرة اللاعب الكبير لفريق الناشئين، سواء في الملعب أو غرفة تغيير الملابس، لكن النتيجة واحدة؛ توقف أبي عن لعب كرة القدم، ولم يتوقف عن حب الزمالك حتى آخر أيام حياته.
بطل الضد
لم يعبأ النادي اليوناني بقصة طلب شيكابالا التجنيد وعدم قدرته على السفر، فقاضاه واستطاع إيقافه عن اللعب لمدة ستة أشهر، ووقّعت غرامة مالية كبيرة عليه، دفعها الزمالك على دفعات، كما تمكن من استخراج بطاقة لعب مؤقتة وعاد شيكابالا للمستطيل الأخضر عام 2006، لتبدأ واحدة من الفترات الحزينة في حياة الأباتشي ونادي الزمالك ومشجعيه.
يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2009، لعب الزمالك ضد نادي اتحاد الشرطة في الأسبوع العاشر من الدوري المصري. كان الزمالك خسر 5 مبارايات وتعادل في واحدة، وفي رصيده 8 نقاط فقط بعد تسع مباريات، وهي نتائج شديدة الثقل على مشجعي الزمالك، الذي تلقت شباكه هدفين في تلك المباراة.
مدرب الزمالك هنري ميشيل على حافة إنهاء التعاقد، الفريق في أسوأ حالاته، والجماهير كذلك، فما كان منهم إلا أن بدأوا توجيه السباب للاعبين، وتحديدًا لاعبهم الموهوب شيكابالا الذي لم ينجح في أن يكون البطل الذي صنعته مخيلتهم، كواحد من الآلهة الكبيرة في الأساطير الإغريقية، زيوس مثلًا أو بوسايدن.
لكنه في الحقيقة أقرب إلى أخيل، بقوته ومهاراته الفائقة، وكعبه الضعيف مثل أبي، سريع الغضب. لم يستطع شيكابالا ابتلاع الإهانات، وقف في منتصف الملعب يصرخ في وجه الجماهير دون أن يسمعوه، لكنهم زادوا من وتيرة السُباب بقسوة أكبر، فانهمرت دموعه رغمًا عنه.
قلب لا يحتمل الضغط
لم يكن أبي يذكر قصته مع نادي الزمالك إلا بالضحك بلا أثر لمرار، كأن فرصة اللعب لنادي الزمالك لم تكن ذات شأن. عمل أبي محاسبًا في أحد الفنادق العالمية، ولعب لفريق الفندق في دوري الشركات. ظل أبي على عهده مع الكرة حتى أنه لعب مباراة قبل دخوله عملية قلب مفتوح وهو في سن الخامسة والأربعين.
هذه المحبة الشديدة لكرة القدم كانت تثير تساؤلي؛ لماذا لم تجتهد في الحصول على مكان حتى على كرسي الاحتياط في الفريق الأول لنادي الزمالك؟ أحاول منذ مراهقتي رسم السيناريوهات التي تبدأ بسؤال ماذا لو؛ تخلى عن الغضب السريع وابتلع الإهانة وأصبح لاعبًا كبيرًا في نادي الزمالك ورد الإهانة فيما بعد؟
ماذا لو قبل عرض اللعب في فريق إحدى الجامعات الأمريكية واستكمال دراسته هناك؟ وهو ما رفضه حتى لا يترك والدته وحدها، كما فعل أباه.
مسيرة الحب والألم
أفكر أحيانًا في سيناريوهات ماذا لو بالنسبة لشيكابالا كما أفعل مع أبي. ماذا لو استطاع التألق في الاحتراف الخارجي؟ ماذا لو تمكن من تعلم السيطرة على أعصابه وكسب المزيد من ثخانة الجلد كي يكسر كعبه الضعيف بنفسه ولا يتأثر بما تقوله الجماهير. هل كنت سأحبه إلى هذه الدرجة وأقارن تاريخه بأبي؟ أم كان سيصبح لاعبًا صاحب أرقام كبيرة، بعقلية احترافية هائلة، بدراما أقل وألقاب أكثر، وكأنه روبوت بلا مشاعر.
هذه الدراما التي عشتها مع أبي؛ الموهبة الكبيرة، والغضب الشديد، وتفضيل المزاج على الاجتهاد والعمل، واللعب بطموح بسيط، أو بلا طموح، والسير مع الأفكار البدائية، حتى الإصابة بجلطة في المخ عام 2020 بعد وصوله لسن المعاش بشهر واحد، ورؤيته بلا قدرة على المشي، ثم الوفاة أواخر 2023، ليقضِ آخر سنوات حياته ليس كما تمنى، بل كما عاش بالفعل، بلا قدرة على السيطرة على سعيه لتدمير ذاته.
بنفس القدر من الدراما كانت حياة شيكابالا، الذي تجاوز اختبار الالتحاق بالزمالك ولعب للفريق الأول، واحترف في اليونان والبرتغال والإمارات والسعودية. إلا أن مسيرته مليئة بانفلات الأعصاب. من رفع الحذاء في وجه جماهير الأهلي، الذي أصبح مشهد مناوشته لهم ومناوشتهم له أمرًا معتادًا رغم وصوله لعمر الـ38، فاقدًا مع غضبه فرصته في أن يكون نجمًا كرويًا من الدرجة الأولى.
إلا أنه لا يزال يحتفظ داخل ذاكرتي بلقطة مؤثرة لم أتخيل أن أتأثر بها إلى ذلك الحد. في نهائي كأس مصر عام 2013، وبعد إحرازه الهدف الثالث من كرة ثابتة في مرمى فريق نادي وادي دجلة، يركض شيكابالا تجاه مدرج جماهير الزمالك، ليشير إلى لافتة معلقة بآخر ما كتبه عمرو حسين، أحد أعضاء رابطة "الوايت نايتس"، الذي توفي وقتها في اشتباكات مع أفراد تابعين لرئيس النادي ممدوح عباس.
"آه يا تيشيرت العمر يا أبيض"، جملة في أغنية لفريق بلاك تيما، كتبها الشاعر الراحل ميدو زهير، تحولت لشعار الوايت نايتس. هذه الجملة تحديدًا، هي ما تجسد بالنسبة لي تاريخ شيكابالا وعلاقته بالجماهير، وهي ما تجعلني أحبه وأفضله على لاعبين أكثر التزامًا وألقابًا منه، وأتصور أن علاقة أبي بجماهير الزمالك كانت لتكون كذلك؛ كثير من العنف والحب والألم.