هذا ليس مقالًا عن كرة القدم كرياضة، حتى ولو كانت هي القالب الذي تتفاعل داخله عناصر شتى من المجتمع على المستوى الشخصي أو الاجتماعي.
خلال هذا الأسبوع تبادلت حوارًا طريفًا مع عدد من الصديقات، يجمع بينهن عدم الاهتمام الحقيقي بكرة القدم وتشجيعهن الحماسي للنادي الأهلي في الوقت ذاته. لكن ما لفت نظرى بشدة أثناء الجدال هو تكرارهن لمقولة أن الإنسان في مصر يولد أهلاويًا على الفطرة.
الأهلي هو نادي الأغلبية الكاسحة في مصر، لكن هل يوجد في العالم ناديًا تتجاوز شعبيته ثلثي عدد سكانه، خاصة إذا تجاوزوا المائة مليون؟ على الأغلب هذا أمر شديد الندرة، لا سيما أن في تلك البلدان التي تعشق كرة القدم، أمر كهذا يتجاوز يقينًا كرة القدم كلعبة ومتعة، فما التفسير إذن؟
الضباط الأحرار والكرة
يحتاج الأمر العودة بالزمن لأكثر من 75 عامًا مضت، كي نجيب عن سؤال منطقي آخر، وهو لماذا لا تنشأ في مصر أندية جماهيرية جديدة؟ لماذا حين تحول نادي الأسيوطي إلى نادي الأهرام أو بيراميدز عام 2018 قرر مالكوه الجدد صناعة قاعدة جماهيرية على طريقة فيلم مرجان أحمد مرجان؛ بالاستئجار المباشر والرشوة الكوميدية. حتى أنهم جلبوا ملحنًا مشهورًا ليصنع أغنية ترويجية على غرار أناشيد الألتراس، تقول إن نادي الأهرام هو نادي القيم والمبادئ "الحقيقي"، في واحد من أشد المشاهد عبثًا وسفهًا.
ينبغي الإشارة أولًا إلى أنه لم يتأسس منذ بداية حكم الضباط الأحرار عام 1952 أي ناد جماهيري جديد. ربما ازدادت شعبية نادي شركة غزل المحلة على حساب نادي البلدية داخل مدينة المحلة، وكان هذا لملابسات خاصة جدًا، حيث يقع ستاد الغزل في قلب حزام المصانع الموجودة في قلب المدينة نفسها، فكان تشجيع الغزل حالة جماهيرية ارتبط فيها العمل بالجغرافيا بالترفيه.
باستثناء ذلك، فكل الأندية التي تألقت فرقها الكروية بعد حكم الضباط الأحرار لم تستطع إنشاء قاعدة جماهيرية.
كان الأهلي نادي عموم المصريين غير المهتمين باللعبة، ومن هنا نشأت مقولة أن جمهوره غير ذوّاق
نادي المقاولون العرب مثلًا، وعلى الرغم من فوزه ببطولة للدوري العام، وحصوله على ثلاث بطولات إفريقية، وتقديمه لكرة قدم ممتعة منذ أواخر السبعينيات وحتى أواخر التسعينيات، وامتلاكه لقطاع ناشئين أفرز العشرات من نجوم الكرة المصرية المحبوبين أهمهم محمد صلاح؛ فإن كل هذا لم يشفع له جماهيريًا بالشكل الذي يسمح له بتأسيس قاعدة أصيلة من المشجعين.
ونادي بتروجيت لم يستطع خلال فترات تألقه استمالة قلب أهالي السويس، الذين لا يزالون يشجعون نادي "منتخب السويس" حتى ولو هبط إلى أعماق الدرجة الثانية. أما نادي حرس الحدود، الذى قدم كرة قدم جيدة في بعض الفترات، فلم يجتذب أهالي المكس في الإسكندرية. في حين لا يزال لنادي "الأولومبي"، كما ينطقه أهالي حي محرم بك، مشجعين أوفياء حتى الآن.
أما نادي وادي دجلة، فلم يستطيع تمثيل ولو جزء صغير من سكان حي المعادي. والجونة لا يعبر عن الغردقة، أو حتى محافظة البحر الأحمر، على الرغم من عدم وجود أي نادٍ أقدم منه في هذه البقعة من الجمهورية.
حكاية القواعد الجماهيرية
لا تتأسس جماهيرية الأندية بسبب متعة المشاهدة، أو الفخر بحصد البطولات، أو الإنفاق السخي. ينسى البعض أو يتناسى أن القواعد الجماهيرية للأندية في مصر تأسست في زمن لم يكن متاحًا لعامة الشعب إمكانية مشاهدة اللعبة من الأصل.
التليفزيون في مصر ظهر في الستينيات ولم تتسع قاعدة مشاهدته إلا في السبعينيات، وكان الراديو هو الأساس في المتابعة. تأسست شعبية الأندية في زمن لم يكن فيه بطولات أو منافسات، وكانت قواعد الولاء ترتبط فيها الممارسة بالنشاط الأهلي بالتمثيل الحقيقي للقواعد الجماهيرية فى المناطق والأحياء ومواقع العمل.
عندما كانت دولنا خاضعة للاستعمار، تأسست الأندية "الأهلية" بعدما شاهد السكان المحليين المستوطنين والمحتلين الأجانب يؤسسون أنديتهم الخاصة. تأسس نادي الجزيرة كنادٍ حصري للأجانب عام 1883، أي بعد عام واحد من دخول الجيش البريطاني لمصر. وفي مطلع القرن العشرين تأسست "المولوديات" في الجزائر و"الأهليات" في مصر كصيغة وطنية محلية مقابل نموذج النادي الأجنبي.
يتضح من اسم النادي الأهلي أنه أهلي، أي يمثل أهالي البلد. لم يكن ناديًا قاهريًا بل كان أهليًا لعموم المصريين. ربما لم يقصد مؤسسوه هذا المعنى بالضبط وقت تأسيسه، ولكن هذا ما سارت إليه الأمور. فالوطنية المصرية ليست تصورًا أبديًا تاريخيًا، بل هي فكرة غزلتها وصاغتها الحركة الوطنية المصرية منذ منتصف القرن التاسع عشر، بتدريج وبطء، وبالممارسة.
كان الأهلي هو نادي عموم المصريين من قبل كرة القدم نفسها، يميل إليه الناس من دون اهتمام بتفاصيل اللعبة. من هنا نشأت الأسطورة التي أطلقها منافسي الأهلي منذ منتصف الستينيات في حق جمهوره، والقائلة بأنه جمهور غير ذوّاق للعبة كرة القدم.
تحمل هذه الأسطورة بعض الصحة، لأن الأمهات اللاتي اعتدن التنكيد على أطفالهن وغلق التليفزيون أو تحويل القناة وقت المباريات، كن أهلاويات وبفخر، بل أن كثير منهن كن يشعرن بحرج وضيق إذا شجع أبناؤهن ناديًا آخر، أو هذا ما شهدته بأم عيني.
أصبح نادي الزمالك عبارة عن شخصية تبحث عن مؤلف، حتى تقرر له أن يكون قطبًا ثانيًا ومعارضة مستأنسة
أندية الأقاليم كانت "أهلية" هي الأخرى، فالاتحاد السكندري كان اتحادًا لعدد من الأندية المصرية في الإسكندرية، اندمجوا معًا فأسسوا "اتحادًا". أما المصري البورسعيدي، فواضح من اسمه أنه "المصري" في مدينة ساحلية يوجد بها أنشطة للأجانب.
ولكن حتى سكان الأقاليم البعيدين عن القاهرة كانوا في الأصل أهلاوية بمعنى ما، وحتى الآن. فمدينة الإسكندرية، ثاني أكبر مدن مصر، بها من جماهير الأهلي أضعاف أضعاف جمهور الاتحاد السكندري، أكبر أندية المدينة وأكثرها شعبية.
على جانب آخر، كانت العاصمة مليئة بالمتمصرين ومهاجري الأقاليم، ولا سيما النوبة، وكذلك المصريين من أصل أجنبي، والأجانب المقيمين المحبين لمصر. هؤلاء أنشأوا ناديًا مختلطًا يجمع كل المكونات المتنوعة، ثم سبغ عليه الملك فاروق رعايته، باعتباره مَلِكًا لكل المصريين وحاميًا للأقليات، فكان نادي فاروق، ثم نادي الزمالك لاحقًا.
ومع الزمن، وبعد مغادرة الأجانب وتمصير المكونات الأجنبية الباقية، أصبح الزمالك عبارة عن شخصية تبحث عن مؤلف ليصيغ طبيعة تكوينه الجديد، حتى تقرر له أن يكون قطبًا ثانيًا ومعارضة مستأنسة.
تأسست القواعد الجماهيرية الحقيقية للأندية في زمن مضى، لا نعرفه جيدًا، وعلى أسس لم تعد موجوده الآن، ولكنها مازالت مستمرة على الرغم من انتهاء زمنها. النادي الأهلي كمعبر عن المصريين أصبح صيغة متجمدة تنتمي لعالم ما قبل الاستقلال، لأنه نادي المصرييين بينما لم يعد هناك أجانب، ولم تعد الأقاليم "أهلي بشرطة" كما كانت في النصف الأول من القرن العشرين.
التعلق في الزمن نتج عن تأسيس عالم ما بعد جمهورية يوليو، وهذا العالم حرم الجماهير والمجتمع من المبادرة الحرة، ومن القدرة على تأسيس واقع وتنظيمات أهلية جديدة، تعبر عن تطورات المجتمع وميوله.
ليس بالاستثمار وحده
ليس بضخ الأموال أو غسيلها أو بالرعاية الإعلانية تتأسس الأندية. الأندية يؤسسها الشعب في مبادراته التنظيمية، في العمل الجماعي الذي يختلط فيه الأهلي بالسياسي بالترفيهي، بالنشاط على الأرض في المناطق السكانية وعلى مستوى نشاطات الأحياء واشتراكات الأعضاء وتبرعاتهم، أن تشعر بالانتماء بصفتك فاعلًا، لا بصفتك مشاهدًا أو مستهلكًا.
هذه الصيغة هي التي أسست الأندية المصرية، وخلقت الأهلي كنادٍ لعموم المصريين، له أفرعه في كافة مناطق الجمهورية، وهى التي أسست أندية الإسماعيلي والاتحاد والمنصورة، وأندية المحلة والمنيا ودمياط.
ولكن جمهورية يوليو صاغت كرة القدم في الخمسينيات والستينيات كمتعة رخيصة للعامة. وتغير الأمر في السبعينيات، وخاصة بعد حرب 1973 واستئناف النشاط الرياضي، فتحولت كرة القدم إلى عامود رئيسي من أعمدة الإلهاء السياسي والاجتماعي للشعب، واستثمرت الدولة بقوة فى هذا الأمر.
أصبحت ثقافة المشاهدة التليفزيونية لمباريات كرة القدم جزء لا يتجزأ من ممارسات العطلة الأسبوعية، يؤدي الناس صلاة الجمعة، ثم يشترون احتياجات البيت من السوق، فيعودون إلى المنزل لمشاهدة حلقة الشيخ الشعراوي، التى يتبعها مباشرة مباراة للأهلي أو للزمالك.
استمرت كرة القدم في مساحة الإلهاء الاجتماعي والسياسي، كمنحة من الدولة للشعب في صورة تسلية رخيصة شبه مجانية، بشرط أن يلعب الجمهور دور المتفرج والمشجع، لا الشريك والمؤسس. وانتهت هذه الصيغة مع ثورة يناير 2011، بعد أن تحولت بعض جماهير كرة القدم إلى فاعل سياسي، سواء عن نية وقصد أو لا.
من وقتها، تحولت كرة القدم إلى شيء آخر، أكثر دمامة وبؤس وعقابية. لم تعد منحة من الدولة إلى الجماهير، بل صارت محبسًا للجماهير في السوشيال ميديا، مبولة تفريغ للعدوان والإحباط، ومغسلة للأموال المشبوهة، وفائض للغضب الخالي من أي متعة.
لم تعد الكرة للجماهير.. لأن الجماهير نفسها بالمعنى القديم لم تعد موجودة.