يتقدم البشر عندما يستخدمون المجاز، ويتأخرون عندما يستخدمهم هو!
المجاز هو طريقة البشر في التجريد والتمثيل وخلق المفاهيم. ومن الناحية العلمية، فإن تطور التفكير العقلاني مرتبط بقدرة الإنسان على استخدام المجاز وتطويره وتطويعه، فيتمكن من التعامل مع تعقيدات الواقع وتجميد سيولته، ولو إجرائيًا، وغلق الأقواس المفتوحة، من ثَمَّ يمكنه السيطرة الجزئية النسبية وتحسين موضعه وموقعه على ظهر الكوكب الفسيح.
تبدأ المشكلة عندما نقع أسرى مجازاتنا، ويعز علينا التعامل معها باعتبارها مفارقة للحقيقة، فنخضع نحن لها، ونحاول تكييف واقعنا، بل وذواتنا، لاشتراطات صحة المجاز، فتتبدل الأدوار، ونصبح نحن أدوات لتنظيم العلاقات بين المجازات لا العكس، وهكذا تنشأ الدوجما.
هل يبدو هذا الحديث بعيدًا عن كرة القدم؟
كرة القدم نفسها مجاز كبير، على الأقل في الفضاء العام للمجتمعات البشرية، فالأغلبية لا يتابعون هذا النشاط لفنياته وتفاصيله الدقيقة، وإنما لأنه رمز للتنافسية. فلولا انقسام اللاعبين لفرق تمثل منتخبات/أوطان أو أندية/قبائل، لما كان هناك أي قيمة للركض والمحاورة والتسديد والخطط والتكتيكات. كل هذا يشبع حِسَّنا البدائي عندما كانت الشجرة واحدة والطالب اثنين، فكان لا مفر من الاقتتال الدائم.
حسنًا، لكن هذا المجاز الكبير لم يعد بمرور الوقت كافيًا، فبدأت تتوالد منه مجازات تتوالد منها مجازات، واتسع نطاق التنافس حتى شمل أمورًا لا قيمة لها حتى في إطار النشاط نفسه، فما معنى مثلًا أن يتعامل جمهور فريق ما مع فشل الفريق المنافس في ضم لاعب باعتباره انتصارًا؟ خصوصًا إذا لم يؤثر هذا في فوز ذلك المنافس بالمباريات والألقاب. ماذا يعني هذا؟
في الآونة الأخيرة هناك تنافس كبير حول من يستحق لقب "أسطورة" من اللاعبين، ترى الأهلاوية يعترضون على أن شيكابالا "أسطورة"، والزمالكاوية يشككون في أسطورية الخطيب أو محمد أبو تريكة، بالإضافة للجدل الكبير: هل أسطورة الكرة المصرية صلاح أم حسام حسن؟ مثلًا مثلًا يعني.
ما أفهمه أن تعبير "أسطورة" مجرد مجاز، تعبير بلاغي ليس رقميًا ولا رسميًا، ولا يمكن تأسيسه على معايير واضحة يمكن قياسها. هو يختلف حتى عن الأفضل والأعظم، فنحن نستخدمه للإشارة إلى مشاعرنا الشخصية تجاه مسيرة لاعب ما، فنرى أنها استثناءٌ أجمل من أن يكون مسيرة "طبيعية"، هي إذن خاصة بالذات لا بالموضوع.
الأسطورة تحتاج مضافًا إليه
لتقريب الفكرة، دعنى أخبرك عن "أسطورة" بالنسبة لي؛ اللاعب صلاح أمين، وهذا جاد جدًا، بالفعل أشعر أن مسيرة هذا اللاعب تستحق التخليد، فحتى اقترابه من الثلاثين لم يكن أمين يلعب في الدوري الممتاز، بل في الدرجة الثانية، وعندما يكون هذا حالك وهذه سنك، يصعب أن تبدأ طريقك مع الكبار، وأن يكون لك تاريخ مع المسابقة الأعرق في مصر.
عندما ظهر صلاح أمين انضم لمنتخب مصر من نادي طلائع الجيش، وطلب النادي الأهلي التعاقد معه، ليصاب إصابة كبيرة، كان طبيعيًا أن تنتهي عندها مسيرته، لكنه عاد ليستمر لأكثر من عشرة مواسم، انتقل فيها بين الأندية، حتى تخطت أهدافه في الدوري الممتاز نجومًا كبارًا مثل عماد متعب وغيره. حتى عندما لعب لنادٍ مغمور، هو نجوم المستقبل، كان ضمن لائحة هدافي المسابقة.
لم يلمع لموسم أو اثنين بل خاض مسيرة طويلة. ولم يكن لمعانه فقط في عدد أهدافه، إنما لتنوع قدراته في تسجيلها سواء من الناحية الجمالية أو المهارية أو الذهنية. وحتى آخر أيامه في الملاعب ظل صلاح أمين يشكل خطرًا على أي دفاع.
لماذا أعتبره أسطورة؟ هذا أمر يخصني، أعرف ذلك، يخص علاقتي الشخصية بمسابقة الدوري العام نفسه. أنا مشجع للبطولة ذاتها، بعيدًا عن فريقي المفضل، ولدي شغف كبير بكل مبارياتها عبر مواسمها، وأتابع صراع المقدمة والهبوط والمراكز المؤهلة للبطولات القارية والمربع الذهبي وخلافه، وعلاقتي بها تمتد لأكثر من 40 عامًا، منذ عام 1982.
هنا، لا يمكنني أن أطالب أحدًا بمشاركتي مشاعري الشخصية، ولا أن أنادي بإعلان اللاعب استثناء على أي نحو، وعليّ استيعاب أن ذلك ليس لأفضلية تخصني، وعلى الآخرين تفهم أن ذلك ليس لأفضلية تخصهم باعتبارهم متابعين لدوريات أكبر. على التعبير البلاغي أن يظل بلاغيًا، وينبغي للذاتي أن يبقى ذاتيًا حتى يؤدي دوره. أما التنافس في المجال، فليكن على ما يمكن قياسه.
من هنا لا أفهم أي نقاش يدور حول اعتبار فلان أسطورة أم لا، محمد صلاح مثلًا هو صاحب المسيرة الأبرز عالميًا بين كل اللاعبين المصريين، هذا أمر قابل للإثبات. الدوري الذي ينافس عليه، بل وحصل على لقبه، هو الدوري الأعلى في العالم. وإسهامات صلاح في تلك المنافسة ترجمتها أرقامه. وعلى المستوى الفردي، نافس اللاعب على أرفع الجوائز العالمية، فضلًا عن حصوله على جوائز القارة بصورة لا يقترب منها كثيرون، هل يعني ذلك بالضرورة أنه أسطورة؟
لا. الأسطورة مضاف ينبغي أن يكون له "مضاف إليه"، أسطورتي، أسطورتك، أسطورته، وهكذا. فإذا كانت "مشاعر" شخص ما أن صلاح لم يعد "مصريًا"، وليس له محل من الإعراب في سياق الكرة المصرية، كما يحسها، فلا مجال لمناقشة الأمر.
كذلك محمود الخطيب، خصوصًا بالنسبة لمعاصريه، وحسن شحاتة وأبو تريكة وحسام حسن وشيكابالا وعلي معلول وسيد عبد الحفيظ. كل هؤلاء لاعبون تتشابه مسيراتهم في الملاعب، تختلف فقط في قلبي أو قلبك، والتعبير عما في القلوب أمر حميد، ومشاركته يضفي على الحياة بهجة ولمسة شاعرية نحتاجها جميعًا.
هذه اللمسة الشاعرية تعتمد على المجاز بصورة كلية، وعندما نستخدم المجاز نخلق المفاهيم، وعندما نخلق المفاهيم ونتشاركها يمكننا تطويرها، لكن كل ذلك يفقد وظيفته عندما نصر على فرضه، أو إنكاره. هنا تتبدل الأدوار ويصبح المجاز هو ما يستخدمنا لا العكس، ومن هنا يبدأ التكلس.