برخصة المشاع الإبداعي: Alisdare Hickson، فليكر
متظاهرون في لندن يرفعون لافتة تضامن مع حق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة 11 نوفمبر 2023

هكذا أضعنا فرصة أتاحتها شيخوخة بايدن.. فمتى نسمي فلسطين باسمها؟

منشور الأربعاء 28 فبراير 2024 - آخر تحديث الخميس 29 فبراير 2024

يلملم الدكتور فيكتور فرانكنشتاين أعضاءً بشريةً، في فيلم فرانكنشتاين ماري شيلي للمخرج كينيث براناه، ويصنع مسخًا مخيفًا، وبتجميع أجزاء الكائن تصير له قدرة تدميرية لا يكبحها حسن نية الطبيب. ومع قوته الفائقة ينطوي على بؤس كبير؛ فيثور على صانعه الذي يموت.

في العراء يطاردون المسخ/روبرت دي نيرو، ويجدونه بجوار جثة الطبيب، الذي لعب دوره براناه. يفزعون فيهددونه بإطلاق النار، ويسألونه: من أنت؟ فيقول: لم يمنحني اسمًا. ويبكي: إنه أبي. مأساة سببها تجاهل إطلاق الأسماء على المُسمَّيات، خصوصًا ثمار اللملمة. والدولة الصهيونية ذروة تمثيلات لملمة المرتزقة، بنادق للإيجار، كان لهم راعٍ، فرانكنشتاين بريطاني، ثم ورثهم راعٍ آخر، أمريكي يؤمن بأنَّ شراء العبد أفضل من تربيته.

"تاريخٌ من العبث"، هذا عنوان دقيق لتوصيف "الحالة الفلسطينية" إذا نظرنا إليها بموضوعية من زوايا أخلاقية وقانونية ودولية وعربية. تُعقد قمم استجداء، تتسوّل سرابًا اسمه السلام، وتقترح معادلة الأرض مقابل السلام، ويموت حكام، ويهلك غيرهم في ثورات فاشلة، ويأتي حكام جدد، مستبدون كأسلافهم، ولم يصبهم الدور بموت طبيعي، أو تغيير بإرادة أمريكية أو ثورات ستكون مبتسرة أيضًا، فيرفعون "الأرض مقابل السلام" شعارًا تسخر منه الدولة الصهيونية، فالأرض تحت أقدام جيشها، والسلام تصنعه قوتها، والمغفلون يتوسلون بهذا الشعار، منذ قمة بيروت 2002، كخيار وحيد، ولا خيار لمن لا تتعدد خياراته، ثم يفاجئهم نتنياهو بمعادلة "السلام مقابل السلام"، يعني: سيب وأنا أسيب.

الاحتلال مهنة

العبث أن تتعرض غزة لإبادة طوال خمسة شهور، والغرب يمدّ النازي بالسلاح، وتعقد قمم عربية وإسلامية، ولقاءات ثنائية عربية عربية وعربية إسلامية وعربية غير إسلامية وغير إسلامية غير إسلامية، لإقناع الدولة الصهيونية بإدخال الغِذاء إلى المدنيين، فهم مسالمون، ولا يساعدون المقاومة. المقاومة؟ ذلك مصطلح أحبته أوروبا الداعمة للجنرال ديجول في تحرير بلاده من الاستعمار النازي.

كان العالم يسمي الاستعمار استعمارًا، ويجيز مقاومته بكل الوسائل، ولم يكن لدى الأحرار المحتلة بلادهم ترف التفريق بين جندي نازي وعائلته التي يحلو لها الإقامة في باريس أو شمال فرنسا. لم يصف مقاومةَ الاحتلال بالإرهاب إلا هتلر ومَن في حكمه، مهما بلغ اختلال ميزان القوى.

الحكام العرب تعوزهم الشرعية فلا يصح أن ينقصهم الذكاء

العبث هو تمسك حكام العرب، الذين لا يمثلون الشعوب، بوهم "حل الدولتين"، ولديهم القرار الدولي رقم 181 لسنه 1947. قرار التقسيم لا يسقط بالتقادم، وينص على تقسيم أرض فلسطين إلى "دولتين"؛ فلسطينية وإسرائيلية، ولم تصدر الأمم المتحدة قرارًا يلغيه.

والقرارات التالية ترفض انتهاكات إسرائيلية، مثل القرار رقم 424 لسنة 1967 الخاص بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، والقرار رقم 478 لسنة 1980 برفض قرار إسرائيل ضم القدس واعتبارها عاصمتها الأبدية.

لا تحتاج فلسطين إلى تسوّل اعتراف، فهي حقيقة وشعبها موجود، يواجه وحده سلطة نازية تستند إلى أنها شرعية، منتخبة. الشرعية والانتخابات مسميات غربية، ولو وجدت عند العرب فهي منزوعة المعنى.

العبث ألا يهنأ العالمان العربي والإسلامي بالخلاص من احتلال أجنبي صريح وخشن، فتبدأ عهود الاحتلال المحلي. والاحتلال مهنة؛ كلُّ جيشٍ يسيطر على بلدٍ آخر يؤدي مهمةً لبلده الأصلي، قد تطول أو تقصر. والحكم بالوكالة مهمة؛ مهنةٌ تتطلب تعيين شخص في منصب تصادف أنه حُكم البلد، فتتحول الدولة إلى شركة استثمار تُدار عن بعد، ويستطيع مالكوها، حاكمو الحاكم وأولياء سلطته، عزل هذا وتنصيب ابنه، واصطناع تمرد على ذاك، وتدبير انقلاب على آخر.

وتفاديًا لهذا كله، وما يترتب عليه من سوء عاقبة قد تكون الإعدام، يلتزمون الصمت، ولا يردّون على وقاحة داعمي الاحتلال الصهيوني، ولو بتسمية الاحتلال باسمه، ودعم الحق في المقاومة.

العبث أن نتابع صولات جنوب إفريقيا في تبنيها قضيتنا، من دون أن ندخل معها متضامنين في اتهام الدولة الصهيونية بالعنصرية وممارسة الإبادة، وأن نكتفي بنفي ما يتهمنا به الرئيس الأمريكي من إغلاق معبر رفح على ضحايا يعانون نقص الغذاء والمياه والكساء والدواء في سجن اسمه غزة.

ماذا لو أحرجْنا بايدن، وأثبتنا ضعف قواه العقلية، إذ وصف عبد الفتاح السيسي بالرئيس المكسيكي، بتسيير مئات الشاحنات، يتطوع بها مواطنون وشركات وجمعيات ودول شقيقة وصديقة، عليها لافتات "إلى فلسطين"، فلسطين وليس غزة، "كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين"، الاسم الذي يخشاه العدو ورعاته، ويطمسونه وهو يطاردهم في الخرائط، ويطلّ من الكتب القديمة.

العبث أن نضيع فرصة أتاحتها شيخوخة الرئيس الأمريكي، غفلةً أو لؤمًا، فلا نعبر فلسطين بشاحنات الإغاثة الملفوفة بلافتات "إلى فلسطين"، وعلى رأس كل طابور كاميرا تبث المسيرة، على الهواء مباشرة للسوشيال ميديا، ومعها فضائيات أجنبية وعربية، ومراسلو وكالات الأنباء الدولية، وممثلو هيئات قانونية دولية ومنظمات غير حكومية أجنبية، وشخصيات عامة من كتاب وفنانين وسياسيين وحاخامات رافضين للعدوان الصهيوني، وداعمين للعدالة الإنسانية للفلسطينيين، ولن تبلغ الحماقة بالعدو أن يقصف هؤلاء جميعًا، فهذا يعني أن يدخل حربًا مع العالم، وهؤلاء يمثلونه.

وكما ذكّر "طوفان الأقصى" بمأساة سجن كبير اسمه غزة، فإنَّ هذه المسيرة تعيد الاسم الصحيح، "كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين".


وفاء لأسلاف مفرطين

الحكام العرب تعوزهم الشرعية، فلا يصح أن ينقصهم الذكاء، ليتهم يمتلكون شجاعة مؤرخين إسرائيليين جدد، يسمون النكبة نكبة، وينقضون الرواية الصهيونية الرسمية التي تسميها "حرب الاستقلال". والتطبيع الاضطراري والمجاني الانتهازي نكبة جديدة، إساءة إلى الحقيقة، وفاء لأسلاف مفرطين.

ينقل محمد حسنين هيكل في الكتاب الأول من العروش والجيوش، عن الجنرال جلوب قائد الفيلق الأردني في مذكراته قول رئيس وزراء الأردن توفيق أبو الهدى لوزير الخارجية البريطاني إرنست بيفن:

"إن اليهود في فلسطين قد أعدوا حكومة وقوة بوليس وجيشًا لكي يتسلموا السلطة فور انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين.

وأما العرب فلم يستعدوا بشيء، وهم في فلسطين غير قادرين على حكم أنفسهم وليست لديهم الوسائل لإنشاء جيش يدافع عنهم".

وينقل هيكل من كتاب "التواطؤ عبر الأردن" (1988) للأستاذ بجامعة أوكسفورد آفي شلايم، أحد المؤرخين الجدد البارزين:

"فور صدور قرار تقسيم فلسطين كان هناك اتفاق مسبق وكامل بين الهاشميين والحركة الصهيونية، وكان جوهر الاتفاق أنه عندما يسري مفعول قرار التقسيم وينتهي الانتداب البريطاني على فلسطين فإن دولة يهودية (إسرائيل) سوف تعلن على الفور في الجزء المخصص لليهود بمقتضى قرار التقسيم.

وأما بالنسبة للجزء المخصص للعرب فإنه ينضم إلى شرق الأردن بحيث لا يكون هناك داع لدولة فلسطينية تنشأ بين إسرائيل وبين نهر الأردن".

ألا يحتاج اعوجاج قديم إلى تقويم عنوانه "كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين"؟

أثبت طوفان الأقصى، على الرغم من ضريبة الدماء الباهظة، أن هزيمة إسرائيل ممكنة، وأن لململة فرانكنشتاين يليها انفراط، كما أيقظ الطوفان ضمير العالم، وأعاد إلى فلسطين اسمها في الشرق والغرب، وما علينا إلا استثمار الواقع الجديد، والتذكير بدولة فلسطين التي رسم التقسيم حدودها عام 1947، وبأن لا حاجة إلى قرار دولي لتأكيد قرار ساري المفعول.

وينبغي، إعلاميًا، تغيير خطاب مائع لا يسمي الأشياء بأسمائها، فالمقاومة حق لا يلزمه تصريح، وإسرائيل كيان احتلالي يمارس إرهاب الدولة، وفلسطين ليست "مشكلة" وإنما هي قضية عادلة، ولا شيء اسمه الشرق الأوسط وإنما هو العالم العربي، فهذا "الشرق" المتخيل يدمج الصهيوني الزائل في العربي الباقي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.