بين هدنة محتملة للحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، واتجاه الولايات المتحدة لتوجيه ضربات عسكرية تستهدف إيران وأذرعها في المنطقة، يسير الشرق الأوسط في مسارين متعارضين.
شهدت باريس، الأحد الماضي، محادثات بين مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، ومسؤولين كبار من مصر وقطر وإسرائيل، لبحث اتفاق هدنة في غزة وصفه نتنياهو بـ"البنّاء"، قبلما يقول في موقف آخر "أسمع أقاويل عن صفقات مختلفة، وأود أن أوضح أننا لن ننهي هذه الحرب إلا بعد القضاء على حماس وإعادة جميع المخطوفين، وضمان أن غزة لن تشكل أبدًا تهديدًا على إسرائيل".
اتخذ الرئيس الأمريكي جو بايدن قراره بشأن طبيعة الرد على هجوم بطائرة مسيرة أسفر عن مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة أكثر من 40 آخرين، حين أكد أن إيران (التي نفت علاقتها بالحادث) هي المسؤولة عن تزويد الأسلحة للهجوم.
وفيما أكد بايدن أن بلاده "لا تريد اتساع رقعة الحرب في الشرق الأوسط، ولا تريد حربًا مع إيران"، توقع مسؤولون أن يكون رد الولايات المتحدة أقوى من الضربات الانتقامية الأمريكية السابقة في العراق وسوريا، وسط إجماع بأن الضربات لن تطول إيران مباشرة.
مصالح أمريكية
يتفق متخصصون في الشأن السياسي على أن اتساع جبهات الصراع في المنطقة يقوّض أي جهود من شأنها وقف العدوان على غزة، في إشارة إلى استفادة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من إطالة الصراع، خصوصًا أنه قال، الثلاثاء الماضي، إن القوات الإسرائيلية "لن تخرج من قطاع غزة". لكن في الوقت ذاته النجاح في الوصول لوقف إطلاق النار بشكل كامل يؤدي مباشرةً لتراجع أو توقف الهجمات ضد المصالح الأمريكية وقواعدها العسكرية في المنطقة.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة مصطفى كامل السيد أوضح لـ المنصة أن الولايات المتحدة تسعى بسبل مختلفة لتخفيف التوتر في غزة "حتى لا تتعرض مصالحها لمزيد من المخاطر"، وأنها تدرك أن مهمتها المعقدة في الرد على الجماعات الموالية لإيران هي "نتيجة المؤازرة الكاملة لإسرائيل في عدوانها على غزة"، وإذا استمر هذا الانحياز سوف تستمر الهجمات.
أولوية حماس الانسحاب الكامل لقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي من غزة
"تقتنع الإدارة الأمريكية بأن تهدئة الأوضاع في غزة توازيها مباشرة تهدئة للهجمات التي تتعرض لها في الشرق الأوسط"، وفق أستاذ العلوم السياسية الذي أوضح أن ما يضمن عدم انفلات الأوضاع حتى الآن هو رفض أمريكا وإيران الدخول في مواجهة مباشرة في الوقت الراهن.
وأشار إلى محاولة الولايات المتحدة إنجاز هدنة طويلة المدى في غزة "بما يساعدها على إعادة ترتيب أوضاعها في المنطقة، وأن الاحتمالات تبدو مرتفعة هذه المرة في الوصول إلى اتفاق، وجرى التوافق على الإطار العام له لكن تبقى التفاصيل التي بحاجة لمزيد من الوقت للتباحث حولها".
وثيقة باريس
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية أكد، الثلاثاء، تلقيهم مقترح باريس، وقال "نقوم بدراسته"، مشيرًا إلى دعوتهم لزيارة مصر لمناقشة الاقتراح. وحسب بيان لحماس فإن "الأولوية هي وقف العدوان والهجوم الوحشي على غزة، والانسحاب الكامل لقوات الاحتلال من القطاع".
يتضمن مقترح باريس لوقف إطلاق النار خطةً من 3 مراحل، حسب ما تتداوله الفصائل الفلسطينية، تشمل الإفراج عن المدنيين مثل النساء والأطفال وكبار السن والمرضى، ثم إطلاق سراح الجنود الإسرائيليين، وتسليم جثامين الضحايا الفلسطينيين.
وأوضح مسؤول بحركة حماس أن العمليات العسكرية من الجانبين ستتوقف طوال المراحل الثلاثة، كما سيتحدد عدد المطلوب من الجانب الفلسطيني الإفراج عنهم خلال عملية التفاوض. ونقل محلل شؤون السياسة الخارجية في سي إن إن، باراك رافيد، عن مصدرين إسرائيليين، قولهما إنه خلال المرحلة الأولى من الخطة من المتوقع أن توقف إسرائيل عملياتها العسكرية لمدة أسبوع أو أسبوعين حتى تتمكن حماس من إطلاق سراح 40 محتجزًا لديها، بما في ذلك النساء وكبار السن.
وفي المرحلة الثانية سيجري تبادل جثث عناصر حماس الذين تحتجزهم إسرائيل بجثث المحتجزين الإسرائيليين، أما المرحلة الثالثة من الخطة فتتضمن "صفقة الكل مقابل الكل"، ما يعني أن إسرائيل ستعيد 6 آلاف فلسطيني في سجونها مقابل المحتجزين الإسرائيليين المتبقين، حسب رافيد.
"وهنا المشكلة"، حسب أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس أيمن الرقب، الذي يستبعد تنفيذ حماس هدنًا مختلفةً دون وقف كامل لإطلاق النار يتضمن انسحاب الاحتلال من قطاع غزة وتشكيل لجنة إعمار دولية بما يجعل القطاع قابلًا للعيش فيه.
دعا مشرعون جمهوريون إدارة بايدن إلى ضرب عمق إيران مباشرة
وأوضح الرقب لـ المنصة أنه في المقابل لن يرضي نتنياهو، الذي يرى في انسحابه من غزة هزيمة عسكرية، والذي يدرك أن انتهاء الحرب يعني انتهاء حكومته، لكنه ينتظر رد حماس على وثيقة باريس ليحملها مسؤولية فشل الهدنة، في محاولة لتجنب المزايدات السياسية من مناوئيه.
ويعتقد الرقب أن التعويل يبقى على الضغوط الأمريكية وما يمكن أن تحققه لتغيير موقف إسرائيل، مع الانخراط الواسع من جانب الولايات المتحدة الآن لوقف الحرب ولو مؤقتًا، بعد أربعة أشهر على اندلاعها "فهي تدرك أن معدلات الكراهية ضدها تزايدت بوتيرة غير مسبوقة وتشعر بتهدد مصالحها على نحو جدي، وتحاول تخفيف الخسائر التي تواجهها على مستويات عديدة بالمنطقة".
"لعل ذلك يفسر النصائح المتتالية من جانب إدارة بايدن لإسرائيل بإنهاء وجودها في عمق غزة كيلا تتعرض لما واجهته هي ذاتها سابقًا في أفغانستان"، وفق الرقب الذي أكد أن تهدئة الموقف في غزة، ومن بعده في المنطقة، ترتبط بالانتخابات الأمريكية هذا العام ورغبة إدارة بايدن التفرغ لها.
مأزق بايدن
واتفق معه الخبير في العلاقات الدولية حامد فارس، الذي أوضح أن الولايات المتحدة ليس من مصلحتها اتساع رقعة الصراع في المنطقة، وقال لـ المنصة "يسعى بايدن لأن يمر عام الانتخابات دون خسائر من الممكن أن يستغلها خصمه المتوقع دونالد ترامب. كما أنه يواجه ضغوطًا مستمرةً من الجمهوريين تستهدف التشكيك في قدرته على حماية المصالح الأمريكية، ويدرك أن مشكلاته الداخلية بحاجة لمزيد من التركيز، قد لا يتحقق مع اتساع قواعد الاشتباك داخليًا وخارجيًا".
ويتعرض بايدن لضغوط متزايدة للرد بطريقة توقف هذه الهجمات إلى الأبد، إذ استهدف المسلحون المدعومون من إيران المنشآت العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا أكثر من 160 مرة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ودعا العديد من المشرعين الجمهوريين الولايات المتحدة إلى ضرب عمق إيران مباشرة لإرسال رسالة واضحة.
فارس يرى أن هناك تعارضًا واضحًا بين الانخراط الأمريكي الواسع في التوتر الدائر حاليًا في الشرق الأوسط، وجهود إنهاء حرب غزة، وأن "حلول المنطقة لا تقبل التجزئة، فما يحدث في غزة يرتبط مباشرة بما يدور في الأراضي اليمنية واللبنانية والسورية". كما أن دخول القوات الأمريكية في صراعات موسعة يمنح الفرصة لأعداء إيران الإقليميين (روسيا والصين) لفرض سيطرتهم على نطاق أوسع.
لكن المأزق الذي يواجهه بايدن هو أنه ليست أمامه وسيلةٌ للتهرب من الرد على الهجمات التي تعرضت لها القوات الأمريكية و"سيحاول السير على الأشواك لمنع انفلات الأوضاع، مع المعرفة الأمريكية بأنها أمام أزمة هي الأشد والأخطر على مدار تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو بحاجة إلى جهود مركبة للحفاظ على أمن إسرائيل وضمان إنهاء العمليات العسكرية باهظة التكلفة"، حسب فارس.
وأعلنت جماعة الحوثي في اليمن، الثلاثاء، على لسان وزير الدفاع التابع لحكومتها في صنعاء اللواء محمط العاطفي "نحن مستعدون لمواجهة طويلة الأمد مع قوى الاستبداد، وعلى الأمريكيين والبريطانيين وأولئك الذين ينسقون معهم إدراك قوة القرار اليمني".
ويشن الحوثيون هجمات يقولون إنها لدعم الفلسطينيين في غزة في ظل العدوان الإسرائيلي على القطاع، ما أدى لارتفاع تكلفة الشحن والتأمين نتيجة لما تسببت فيه من اضطراب لمسار تجاري رئيسي بين آسيا وأوروبا تستخدمه السفن التي تبحر من الصين على نطاق واسع.
ونفذّت الولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة عدة ضربات استهدفت مستودعات الأسلحة التابعة لوكلاء إيران في العراق وسوريا واليمن، وحتى الآن لم تنجح أيٌّ من تلك الضربات في ردع المسلحين، الذين أدت هجماتهم الـ165 إلى إصابة أكثر من 120 من أفراد الجيش الأمريكي في جميع أنحاء المنطقة منذ أكتوبر.