لا تستخدم منى عبد الله، وهي في منتصف الثلاثينات، الفوط الصحية. كانت تظن أن تكلفة العبوة لن تقل عن 50 جنيهًا. المرة الوحيدة التي جربت فيها تلك الفوط، كانت حين أهدتها شقيقة زوجها أحدها "كانت مريحة أوي، بيبقى نفسي أجيب منها، خصوصًا في الأوقات اللي ناس بتطلبني أساعدها في البيت، ببقى قلقانة لَلْقماشة تقع".
منى التي هجرها زوجها، لتتحمل وحدها مسؤولية أربعة أطفال، اثنين منهم في التعليم، يصعب عليها اقتطاع المبلغ شهريًا "الظروف عندي متسمحش، بقول لنفسي ولادي أولى بالفلوس اللي هجيب بيها أولويز" تقول للمنصة.
وحين أخبرناها أن تكلفة أصغر عبوة من الفوط الصحية، 8 قطع، تبلغ من 16 إلى 21 جنيهًا، استقبلت الخبر بنظرة دهشة، قبل أن تراجع نفسها "هي مش هتكفيني لأنها بتنزلي كتير (الدورة) ممكن أغير من 3 إلى 4 قماشات في اليوم، بفلوسها ممكن أجيب نص بطاطس أو رز".
ومنى واحدة من 500 مليون امرأة حول العالم و107 مليون فتاة عربية، يواجهن فقر الحيض، حيث لا تمكنهن ظروفهن الاقتصادية من الوصول إلى منتجات الدورة الشهرية، حسب تقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان.
ولا توجد إحصائية حول عدد المتعثرات في الحصول على منتجات الدورة الشهرية في مصر، غير أن تلك المنتجات التي طالتها الزيادة في الأسعار، إثر التضخم الذي تعاني مصر واحدة من أسوأ فتراته، وسجل في يناير/ كانون الثاني الماضي 31.2%، صارت عبئًا على الكثيرات.
ليست رفاهية
إحدى أولئك النساء هند محمود*، ربة منزل وأم لثلاثة أولاد، انتقلت من محافظة الشرقية قبل 13 سنة للزواج بالقاهرة، تحصل على مصروف الشهر من زوجها لشراء مسلتزمات المنزل، غير أن الفوط الصحية "مالهاش بند" في مصاريفه، ما أثقل كاهلها حين علمت أن سعر العبوة التي اعتادت على شرائها قفز إلى الضعف، خلال الشهر الماضي.
وحتى قبل زيادة الأسعار كانت تجد صعوبة في شرائها ما جعلها تلجأ لبدائل أخرى، "كنت بستخدم البامبرز في حالات طارئة، الواحدة كانت بـ 2 جنيه، وبتسعفني لما تنزل الدورة في آخر الشهر وممعيش فلوس".
قبل موجة الغلاء الأخيرة، كانت منتجات الحيض تكلف هند 60 جنيهًا شهريًا، لأن عبوة واحدة ذات 14 فوطة لا تكفيها.
قفز سعر أولويز ألترا (شديدة الرُفع) 16 فوطة، من 35 جنيهًا إلى 67 جنيهًا في مارس/آذار الجاري، كما ارتفع سعر عبوة أولويز ألترا ماسي الزرقاء، تحتوي على 6 قطع من 35 جنيهًا لتصل مؤخرًا إلى 67 جنيهًا. أما براند سوفي فارتفع سعره من 18 جنيهًا لـ16 فوطة إلى نحو 30 جنيهًا.
رأت هند في الفوط القماشية حلًا محتمل لكنها تخشى أنها "مش هتلاحق" على استخدامها، في إشارة إلى الحاجة لتغيرها دائمًا، لكن منى ستستخدمها كما العادة، رغم أضرارها.
القماشة
خصصت منى من ملابس أولادها البالية أقمشة لأوقات الحيض، لكنها تواجه مشاعر مركبة بين الحزن على تلك الملابس والخوف من التهابات الدورة الشهرية التي أصيبت بها أكثر من مرة، "بيحصل لي زي التهاب كده وتسلخات".
وتوضح سندس سالم، مساعدة الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة بالمركز القومي للبحوث، للمنصة، أن البكتريا الناتجة عن وضع الأقمشة؛ قد تسبب الإصابة بالتهاب بكتيري ثم التهاب فطري، من أعراضه "رائحة كريهة من المهبل، نزول إفرازات متكتلة على شكل جبن أو زبادي، نزول إفرازات سائلة مائلة إلى الإصفرار أو مخاطية مخضرة".
فيمّا تحذر سحر عبد العال حامد، استشارية النساء والتوليد، من استخدام الأقمشة "بيئة عنيفة لنمو البكتريا، فيه بكتريا بتموت بالغليان، لكن من الداخل يتفاعل دم الحيض الجديد مع البكتريا التي تحتوي عليها الأقمشة، مؤديًة إلى الإصابة بالتهابات مزمنة قد تتطور إلى ميكروب أو مشكلات في أنابيب قناة فالوب".
وتضع الاستشارية شروطًا متعددة لإعادة استخدام الفوط القماشية، "يجب غسلها بمطهرات مثل الكلور والغلي على حرارة أعلى من 100 درجة مئوية، ثم غسلها وتجفيفها في أشعة الشمس لفترة طويلة ثم كيها بالمكواة للقضاء على أنواع من البكتريا".
تتعامل منى مع القماش مرة واحدة وتلقي المستعمل "أنا بستخدم قماش كتير أوي". وهذا ما تتفق عليه استشارية النساء والتوليد "أفضل طريقة هي إلقائها بعد الاستعمال"، لكنها في الوقت ذاته ترى أن القماش ليس بديلًا للفوط الصحية التي تلعب دورًا في العزل والامتصاص.
وتشدد سندس سالم، مساعدة الصحة الإنجابية، على أن الفوط الصحية لا غنى عنها؛ خاصًة الأنواع القطنية الخالية من نسبة البوليستر، "القطن لديه قدرة عالية على امتصاص البكتريا الموجودة في دم الحيض، ما يحمي من إصابة النساء بالحساسية الجلدية".
وتوصي سندس بضرورة تغيير الفوطة كل 8 ساعات على الأكثر، أي من 2 إلى 3 فوط يوميًا، أيًا كانت كمية الدماء "لا يعني أن كمية الدم قليلة الجلوس بالفوطة الصحية لمدة 24 ساعة أو تركها لغاية ما تتملي".
وبخلاف الأزمات الصحية، ينتاب منى الخجل عند وضع القماش لبروزه أو تبقيعه الملابس الخارجية بقطرات دماء، " كل شوية بسأل بنتي فيه حاجة باينة أو كده تقولي لاء، ببقى ماشية متضايقة، مرة نزلت مني القماشة بين رجلي مبقتش عارفة أعمل إيه فركبت توك توك وجريت على البيت".
توضح سندس أن العادات الخاطئة في التعامل مع الدورة الشهرية، بما في ذلك الاستخدام الخاطئ للفوط الصحية "قد تؤدي لصعود البكتريا إلى الجهاز التناسلي ووصولها إلى الرحم متسببة في حدوث قرح في عنقه أو مشكلات كبيرة مثل احتقان الحوض أو التهاب قنوات فالوب أو التهاب الرحم"، مشيرًة إلى أنها مشكلات قد تؤثر على الإنجاب.
بالواحدة..
في أحد الشوارع الجانبية في حي العمرانية في الجيزة، يقع محل امرأة خمسينية تُعرف باسم أم كرم يبيع المنظفات، وفيه تبيع أم كرم الفوط الصحية بالواحدة، "زباين المحل مبيقدروش يدفعوا ثمن العبوة كاملة من الصيدلية".
تحكي أم كرم للمنصة إنها منذ شهرين "لقيت بنت جايالي وعايزة أولويز، جبت لها علبة قالت لي لا إديني واحدة بس علشان مش معايا فلوس". شعرت بالقلق في بادئ الأمر من البيع بالقطعة؛ خوفًا من عدم بيع باقي العبوة "فرط"، لكنها وجدت في القطعة تجارة رائجة "الستات هتعمل إيه يعني؟".
تصف البائعة زبوناتها بالبسطاء "فيه بنت في ثانوي جت اشترت مني 3 فوط إمبارح، وفيه ست بتيجي هي أو بنتها بياخدوا العلبة كاملة، وفيه بنات بيشتروا مني البامبرز ويقسموه نصين".
تشير التقديرات إلى أن واحدة من كل 10 فتيات في إفريقيا، تتغيب عن المدرسة نتيجة عدم الحصول على منتجات الدورة الشهرية أو إتاحة مرحاض نظيف، وفقًا لمنظمة actionaid الدولية المعنية بالنساء محدودات الدخل.
وتختلف أسعار الفوطة الصحية لدى أم كرم حسب الحجم، إذ يبلغ سعر الفوطة الطويلة 2 ونصف جنيه، والقصيرة جنيهان، وسعر العبوة الصغيرة 17 جنيهًا، بينما كانت تباع العبوة ذاتها في الصيدليات بـ 18 ونصف جنيه، حتى فبراير/شباط الماضي.
على بعد منزلين من محل أم كرم، تقطن سامية أحمد*، التي أقبلت على شراء الفوط الصحية بالواحدة لأول مرة في العام 2011، وذلك حين مرت بظروف مادية صعبة إثر وفاة والدها وانقطاع راتبه وعدم استخراج المعاش الخاص به "كانت وقتها الواحدة بجنيه وساعات كنت باخدها شُكك".
مع مرور الوقت واستلام سامية لمعاش والدها، اتجهت إلى شراء العبوة الكاملة "بتكفي معايا بس مشكلتها إنها بتكلكع". تختار سامية الفوط الأقل سعرًا مقابل التنازل عن شعورها بالارتياح. ويظل انزعاجها من الفوط الأرخص أقل مما تواجهه منى مع القماش.
الفوط حقهن
مؤخرًا، أطلقت ثلاث منظمات في 8 مارس/آذار الجاري حملة "ضرورية مش رفاهية"، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، للمطالبة بتوفير الفوط الصحية ضمن منظومة التأمين الصحي، أو توفيرها بأسعار رمزية أو مجانية.
وتستهدف الحملة التي أطلقها مركز تدوين لدراسات النوع الاجتماعي ومبادرة سند للدعم القانوني للنساء ومؤسسة براح آمن، "التعامل مع مستلزمات الدورة الشهرية كحق إنساني، ومستلزمات صحية أساسية وليست أمور كمالية تدرج ضمن بند العناية بالجسم".
ولا تعد تلك الحملة الأولى من نوعها، إذ سبق وأطلقت جهاد حمدي، مؤسسة حملة Speak up، العام الماضي مبادرة وصول الفوط الصحية للنساء في المناطق الأكثر فقرًا في محافظتي القاهرة والجيزة، وتوزيعها على المدارس الحكومية والمناطق الشعبية ودور الأيتام بالمجان، واستلهمتها من تجربة شبيهة في اسكتلندا.
وكان البرلمان الاسكتلندي أقر 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، توفير منتجات الدورة الشهرية للنساء بالمجان، بما في ذلك السدادات القطنية والفوط الصحية.
تقول جهاد للمنصة، "الحملة الأول كان هدفها الوصول للبنات في ثانوي بالمناطق الشعبية عمومًا، علشان أغلبنا في جامعات وفكرنا إن العمر ده أكتر ناس هيحتاجوا الفوط الصحية".
بدأت الحملة بـ 5 مدارس "الاتفاق كان مع مديري المدارس الحكومية في المناطق الشعبية وكانت الفوط بتكون موجودة في الحمامات ولما بتخلص بيحطوا تاني".
تخشى جهاد أن ارتفاع أسعار الفوط الصحية مؤخرًا سيصعب قدرة الفتيات في المناطق الشعبية على الحصول عليها، وتتمنى أن توفرها الحكومة على البطاقة التموينية.
من جانبه، يوضح علي عوف، رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجارية، للمنصة، أبعاد الأزمة الحالية بأن "الحكومة بتستورد المواد الخام المستخدمة في صناعة الفوط الصحية، والمواد البلاستيكية في التغليف، ما يتسبب في زيادة السعر بالتبعية مع التعويم الثالث"، في يناير/كانون الثاني الماضي وفيه قفز سعر الدولار متجاوزًا الـ30 جنيه.
ويُقدر استخدام الفوط الصحية للمرأة الواحدة من 5 إلى 10 آلاف فوطة خلال سنوات الإنجاب، ذلك عند استخدام من 2 إلى 4 فوطة يوميًا لمدة 5 أيام كل 28 يومًا، متوسط دورة الحيض. وهو ما يعني استخدام 130 إلى 260 فوطة أو سدادة سنويًا، حسب إحصائيات نشرتها Womena المعنية بمساعدة النساء على إدارة الحيض.
ولكن الثلاثة نساء اللاتي تحدثت إليهن المنصة يستخدمن أقل من ذلك بكثير، فهن لا يملكن رفاهية تغيير الفوط بشكل متكرر على مدار اليوم. وهن لسن وحدهن، إذ أن نحو 30% من المصريين تحت خط الفقر بحسب آخر إحصاء رسمي رصد الوضع حتى 2020، ولم تُعلن نسب الفقر العامين الماضيين، وسط مؤشرات عدة على ارتفاعها.
وهكذا، ينتاب أم كرم القلق من عزوف أهل الحي عن الشراء واللجوء إلى الأقمشة، بينما تحلم منى باستخدام فوطة صحية تحميها من الالتهابات الجلدية المتكررة.
* اسم مستعار بناء على طلب المصدر.