في مرحلة المراهقة ولدت بيني وبين جسدي علاقة كراهية نتجت عن شعوري الدائم بالألم وإجباري على التعايش معه دون شكوى. أستطعت مع الوقت أن أعود نفسي على مصاحبة هذا الألم والتسامح مع مشهد الدماء المقزز كل شهر.
رسّخَت تلك المعاناة تصورًا سطحيًا داخلي في مرحلة البلوغ؛ أنه لا يوجد أسوأ من ذلك قد يحدث لي لكون جسدي جسد امرأة.
استمر هذا التصور معي 14 عامًا حتى وقعت عيناي على تقارير صحفية تسرد قصصًا تتحدث عن الدورة الشهرية وأمور متعلقة بها، وتُسلِط الضوء على تحديات يومية تواجه النساء في أماكن مختلفة في العالم؛ تتعلق بكرامتهن وصحتهن.
لاجئات سوريا ونقص الرعاية الصحية
القصة الأولى نشرتها صحيفة "اندبندنت" البريطانية بتاريخ 4 ديسمبر/كانون الأول 2015. تحكي عن قيام سيدة تُدعى أيمي بيك –وهي إنجليزية تعمل مدربةً لليوجا- بتأسيس جمعية في 2014 بمخيم الزعتري بالأردن لدعم النساء السوريات وتحسين ظروفهن المعيشية؛ بخلق فرص عمل في تصنيع فوط صحية.
استلهمت إيمي فكرتها من تجربة شاهدت تقريريًا تليفزيونيًا عنها حيثُ قام هندي فقير لم يُنهِ تعليمه يدعى أروناشالام موروجنانثم، في يونيو/حزيران 2012 بتصنيع فوط لمساعدة زوجته بعدما علم عن طريق الصدفة أنها تجمع قطع قماش مهترئة قذرة لتستخدمها كفوط صحية لعدم قدرتها على شراء الفوط . بدأ أروناشالام تصنيع فوط صحية بنفسه بتكلفة زهيدة لتستعملها زوجته قبل أن ينتشر الأمر بين العديد من النساء الفقيرات في الهند.
إحدى فتيات مخيم الزعتري قالت، وفقًا لتقرير إندبندنت، إن الفوط الصحية توزّع مرة كل 6 أشهر؛ ولكنّ المخزون في الأغلب ينتهي في أول شهرين. وأضافت أنه "حتى عندما تكون الفوط الصحية متاحة تُحرَج الفتيات من سؤال آبائهم للشراء من محلات المخيم، كما أنه لا توجد فوط صحية للنساء فوق 42 عامًا".
عدد من العاملين بمجموعات الإغاثة بسوريا قال، وفقًا لتقرير لوكالة الأنباء الفرنسية نقله موقع مصراوي، إن "الفوط الصحية التي تذهب للمناطق المحاصرة ضمن المساعدات الصحية أقل بكثير مما تحتاجه النساء هناك".
وقالت هدى (اسم وهميّ لفتاة تبلغ 23 عامًا) إنها أصيبت بالتهابات فطرية ومشاكل مهبلية وآلام في الكلي أثناء التبول بسبب الاستخدام المتكرر للفوط الصحية "لندرتها في الأسواق".
اقرأ أيضًا: التحرش بالحوامل.. شهادات خادشة للحياء
كانت يونيسيف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) قالت إنها أوصلت ما يقرب من 84 ألف رزمة فوط صحية تحتوي كل رزمة على 10 فوط للمناطق المحاصرة التي يصعب الوصول إليها في سوريا في عام 2016، مقارنة بـ 17 ألف رزمة في 2015.
ويتواجد نحو 860 ألف امرأة سوريّة في مناطق محاصرة، وباعتبار أن ثلثي هذا العدد في حاجة إلى فوط صحية يصبح العدد المطلوب أكثر من 10 ملايين فوطة صحية سنويًا.
مُشردات أمريكا.. الفوط الصحية أو وجبة الغداء
في 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي ظهر على يوتيوب مقطع فيديو يحوي شهادات حية من أمريكيات مُشرّدات؛ يروين معاناتهن الصحية وقت الدورة الشهرية وشعورهن بـ"الإذلال العلني وعدم قدرتهن على العناية بأنفسهن".
كايلا، إحدى المشردات، لا تملك إلا بنطالاً واحدًا تلبسه طوال الوقت ما يجعل حفاظها على "نظافتها الشخصية" أمرًا بالغ الصعوبة، خاصة في ظل "صعوبة استخدام المراحيض العامة للاستحمام والتخلص من رائحة الدماء".
تقول جوليسا فيريراس، عضوة مجلس مدينة نيويورك، في الفيديو نفسه إن هناك نساء يضطررن إلى التضحية بوجبة يوم بأكمله من أجل شراء الفوط الصحية بسبب غلاء أسعارها. وتضيف أن تلك المسألة يجب أن تندرج ضمن الأزمات الصحية التي تحتاج إلى تدخل تشريعي لحلها.
تذكر اليكسا -إحدى المشردات- أن سعر ارخص فوطة صحية يتجاوز 7 دولارات وهو "أغلى من ثمن وجبة الغداء" التي تتقاسمها هي وحبيبها.
"ليست رفاهية"
في 27 أكتوبر 2015، سلّطت عضوة مجلس النواب الإنجليزي ستيلا كريسي الضوء على أزمة الضريبة المضافة على سعر الفوط الصحية. وتبني حزب العمل، الذي تنتمي له كريسي، حملة داخل المجلس لإلغاء الـ5% المضافة على سعر الفوط رافضًا اعتبارها "سلعة ترفيهية".
قالت كريسي في كلمتها إن "الحفاضات والفوط الصحية كانت دائمًا تعتبر ترفًا.. وهذا الأمر ليس صدفة لأنه نتاج مجتمع غير متساوٍ. لا يتعامل مع اهتمامات النساء بنفس القدر الذي يتعامل به مع اهتمامات الرجال".
وأنهت كلمتها ساخرة من عدم إضافة ضريبة على ماكينات الحلاقة لأنها ليست من السلع الترفيهية باعتبار نظافة ذقون الرجال من الضرورات.
الحملة لم تنجح في هدفها حيثُ صوت 287 عضوًا لدعم طلب إلغاء الزيادة في حين رفض 305 هذا الطلب.
في الولايات المتحدة الأميركية يُعرّف قانون الضرائب لولاية نيويورك "الفوط والحفاضات الصحية أنها منتجات النظافة الأنثوية" فهي ليست معفاة من ضريبة المبيعات "لأنها ليست معدة للاستخدام داخليا أو خارجيا، في التشخيص والعلاج والتخفيف والعلاج، أو الوقاية من الأمراض أو من الأمراض البشرية". ويماثل هذا التعريف تعريفات القوانين الضريبية في الولايات الأخرى للوازم والأدوية الطبية.
هناك مصطلح اقتصادي يشرح سبب ذلك الانحياز هو Gender bias taxation ويعني وضع سياسات ضريبية وفقا لانحياز النوع.
هذا الانحياز أقر به الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما حين سُئل عن رأيه في الضريبة المفروضة على الحفاضات والفوط الصحية فقال "لا يوجد لدي أدنى معرفة لماذا قد تقوم الولايات بإضافة ضريبة للفوط واعتبارها سلع ترفيهية. أعتقدُ أن هذا بسبب أن تلك القوانين مُررت في وقت عندما كان المشرعون من الرجال فقط".
وتطرقت دراسات وتقارير متعددة إلى هذا الأمر. وأشارت دراسة بعنوان "ثمن كونك أنثى مستهلكة" من إدارة شؤون المستهلك بمدينة نيويورك، إلى أن "الضرائب غير العادلة" تفرض أعباءً اقتصادية أكثر على النساء في الولايات المتحدة لأن بعضهن "يحصلن على رواتب أقل من الرجال الذين يشغلون نفس المناصب في العمل".
مؤسسة (أن بي أر) الإعلامية الأميركية أشارت إلى إن الضريبة المضافة للفوط الصحية تُضيف ما يزيد عن 66 سنتًا لكل علبة، وإنه بالنظر إلى أن النساء يأتيها الحيضُ لعقود فإنها ستتحمل هذه الضريبة عبر سنوات عمرها.
نفس التقرير ذكر إن التقديرات الأخيرة لشركة أبحاث السوق "يورومونيتور" أشارت إلى أن النساء في الولايات المتحدة اللاتي تتراوح أعمارهن بين 12 و54 عامًا أنفق كل منهنّ بمتوسط 17,60 دولارًا على الفوط والحفاضات الصحية العام الماضي.
ويستخدم نحو 70% من النساء الأميركيات الفوط الصحية. كما إن النساء يأتيهن الحيضُ في الأغلب من 12 إلى 50 عامًا، وهذا يعني أن الدورة الشهرية للنساء تأتي ما يقرب من 450 مرة لكل امرأة خلال حياتها.
نساء مصر والأعباء الاقتصادية المضاعفة
في مارس/آذار 2013، كنت في زيارة لمحافظة المنيا بصعيد مصر، كمدربة قانونية على قضايا النوع والتمييز وسياسات الدولة في هذا الصدد، ضمن مشروع وصال للمسرح التفاعلي.
أبلغتني فتيات بالمرحلة الإعدادية خلال اللقاء الذي احتضنه مقر جمعية "الجيزويت"، أنهن لا يستطعن الذهاب للمدرسة أثناء أيام الدورة الشهرية بسبب ارتفاع سعر الفوط الصحية، وعدم قدرتهن على دفع سعرها بجانب "أجرة مواصلات المدرسة".
تساءلت وقتها؛ لماذا لا يفهم صانعو القرار أن احتياجات النساء (وعددهن في مصر 49 مليونًا و100 ألف حسب آخر إحصاء رسمي) ضرورة صحية يجب أن تدخل تحت مظلة الصحة العامة؟ لماذا لا تهتم الدولة بوجود بيانات تفصيلية للنوع تتضمن عدد النساء اللواتي يأتيهن الحيض، وفي أيّ فئة عمرية هنّ حتى يتم تحديد حجم الإنفاق على الفوط الصحية، وتحديد نصيب النساء من مخصصات الصحة في الموازنة العامة للدولة؛ لرسم سياسات أفضل وأنسب تراعي صحة النساء.
قبل يومين، ذهبت لإحدى الصيدليات القريبة من منزلي لشراء فوط صحية وفوجئت بارتفاع أسعارها.
عادت الأسئلة نفسها تطرق ذهني لكنها هذه المرة مُحملة بإحباط وغضب. لماذا تتحمل أجسادنا ضريبة التعثر الاقتصادي والاقتراض من صندوق النقد وتعويم الجنية وضريبة القيمة المضافة.. إلخ!.
ولماذا في دولة لا تكف عن التدخل في تفاصيل حياة النساء وأجسادهن وفرض الوصاية عليهن، لماذا قرروا الآن ألا يروننا؟
سألت نفسي عن وضع السجينات في غرف احتجاز الأقسام وفي السجون وعن رعايتهن الصحية. هل تصرف لهن الفوط الصحية كما يُقدم لهن الطعام في السجن على نفقة الدولة. ماذا عن وضع الفقيرات منهن؛ هل تمتلك أسرهن المال لشراء الفوط؟ وماذا عن هؤلاء المشردات والمتسولات ممن أقابلهن بشكل يومي، كيف يتعاملن مع الدورة الشهرية واحتياجاتها وهنّ يبحثن عن الطعام وبالكاد ينجحن في توفير ثمنه.
الآن، وبعدما اقتربت من الثلاثين، لم أعد أكره جسدي كما كان الوضع في السابق. أتقبلُ آلام الدورة الشهرية وألجأ للمسكنات لتخفيف حدتها لكنّ العبء المالي ما زلت أتحمله وحدي، وما زلنا جميعًا كنساء نتحمله في بلدٍ قررت أن تغض الطرف عن أجسادنا وألا ترى احتياجاتنا الصحية كضرورة بحاجة للدعم.
اقرأ أيضًا: رجال مصر يفخرون بنسائها