تصميم يوسف أيمن، المنصة
الحق في الإنجاب

طفل واحد أو لا أطفال.. ما فعل التضخم بأعداد المواليد

منشور الاثنين 27 يناير 2025

ستعيش الطفلة فرح، ذات السنوات الخمس، وحيدةً دون أخوةٍ، فوالدها الثلاثيني كارم جابر الذي يعمل محاسبًا قانونيًا، اتخذ وزوجته قرارًا بالتوقف عن الإنجاب، "ما أقدرش أقول إني أقدر أوفر حياة كريمة لأكتر من طفل واحد"، يقول لـ المنصة.

لم يأتِ قرار كارم من فراغ، فقد صارح زوجته خلال فترة الارتباط بأنه لاإنجابي بالأساس لكن زوجته أقنعته بالإنجاب، خوفًا عليه من الوصم بالعقم، وكي لا يحرمها من غريزة الأمومة، فأنجبا "فرح"، ثم أغلق الباب أمام محاولات زوجته المتكررة لإنجاب طفل ثانٍ.

أكمل كارم سبع سنوات من الزواج، تغيرت خلالها أوضاعه المادية إيجابًا، لكن خوفه من آثار الأزمة الاقتصادية لم يتبدد، وهو ما يجعله يتشبث برأيه في الاكتفاء بطفلته الوحيدة "اتجوزت في شقة إيجار جديد، وماكنش عندي عربية، الظروف اتغيرت بس لسه شايف الخلفة مسؤولية مش سهلة، إزاي أقدر أضمن لولادي ع الأقل تعليم كويس".

برأيه، توفير مستوى اجتماعي جيد أصبح تحديًا غير هين في ظل الارتفاعات المتتالية لأسعار السلع والخدمات، فهو إن نال حظه من التعليم في ظروف مستقرة اقتصاديًا غابت فيها روح التنافس والتفوق الاجتماعي، يجد نفسه الآن مجبرًا على توفير مبالغ ضخمة سنويًا فقط من أجل تعليم ابنته في مدرسة لا يرضى عنها تمامًا لكنها أقصى ما يمكنه توفيره، يقول "بدفع حوالي 50 ألف جنيه مصروفات دراسية لبنتي، بقدر أدبرهم من شغلنا أنا ومراتي بس يستحيل أن أوفر المبلغ ذاته لطفل تاني".

انخفاض مستمر

تُظهر بيانات الجهاز المركزي للإحصاء أن التضخم السنوي في مدن مصر ارتفع قليلًا من 26.4% في سبتمبر/أيلول الماضي إلى 26.5% في أكتوبر/تشرين الأول، مدفوعًا بارتفاع أسعار الوقود، فيما سجل معدل التضـخم السنوي لإجمالي الجمهورية 26.3% لشهر أكتوبر 2024 مقابل 38.5% للشهر نفسه من العام السابق.

مصر في طريقها لتسجيل مولود كل دقيقة خلال 10 سنوات فقط من الآن

بالتوزاي، تشهد مصر تراجعًا لافتًا في أعداد المواليد خلال هذه السنوات، ففي مطلع نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2024، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تراجع أعداد المواليد خلال آخر خمس سنوات.

ووفقًا للبيانات، فإن مصر وصلت إلى المليون الجديد، المحتسب من الفرق بين عدد المواليد والوفيات، خلال 268 يومًا، أي حوالي 8 أشهر و28 يومًا، في حين أن المليون السابق، رقم 106، تم الوصول إليه في 250 يومًا فقط، والمليون الأسبق تحقق في 245 يومًا.

يمكن ملاحظة توازي الانخفاض في أعداد المواليد مع الارتفاع في نسبة التضخم والزيادات المطردة في أسعار السلع والخدمات، وهو ما يعزوه خبراء تحدثوا إلى المنصة للعزوف عن الزواج تحت وطأة تكاليفه الباهظة، إلى جانب ارتفاع معدلات سفر الشباب، ذكورًا وإناثًا، للخارج، بالإضافة لتفاقم الغلاء الذي يبدد الاستقرار الأسري والوظيفي.

حسب أكرم ألفي، الصحفي والباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، فإن الدولة في طريقها لتسجيل مولود كل دقيقة خلال 10 سنوات فقط من الآن، مستدلًا ببيان وزارة الصحة المصرية الذي يقول إن مصر أصبحت تستقبل مولودًا كل 25 ثانية، في حين أننا كنا نسجل مولودًا كل 15 ثانية منذ ثلاث سنوات فقط.

هذا التراجع حسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري جاء بسبب انخفاض متوسط أعداد المواليد اليومية إلى 5385 مولودًا مقابل 5599 مولودًا خلال تحقيق الــ106 ملايين نسمة، و5683 مولودًا للوصول إلى 105 ملايين نسمة. 

التضخم لا يؤثر على قرار الإنجاب لكن على قرار الزواج بالأساس

 

ترجع الدكتورة هالة منصور، أستاذة علم الاجتماع بجامعة بنها، انخفاض نسبة المواليد، للعزوف عن الزواج من الأساس بسبب زيادة تكاليفه، وكذلك ارتفاع معدلات الطلاق، وكثير من هذه الحالات تقع تحت أثر مباشر من الضغوط الاقتصادية الناتجة عن التضخم.

وتشير سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، إلى ارتفاع نسب سفر الشباب ذكورًا وإناثًا للخارج، ما أثّر على معدلات الزواج وبالتبعية نسب الإنجاب، مشيرةً إلى أن الرغبة في الارتقاء الاجتماعي وتحسين الظروف الاقتصادية يدفعان الشباب لمغادرة البلاد.

حتى الأسر التي كانت ترفض سفر أبنائها في السابق، أصبحت تدفعهم اليوم إلى ذلك لتحسين الأحوال المعيشية. "التضخم لا يؤثر على قرار الإنجاب، ولكن على قرار الزواج بالأساس"، تقول أستاذة علم الاجتماع لـ المنصة.

وحسب البنك الدولي، تزايدت معدلات الهجرة من مصر بشكل كبير خلال السنوات الماضية، ويتوجه 74% من المهاجرين المصريين إلى دول الخليج، مقابل 18% لأوروبا وأمريكا الشمالية، و8% لباقى أنحاء العالم.

هل للدولة دور في تراجع المواليد؟

لطالما اعتبر الرئيس عبد الفتاح السيسي الزيادة السكانية أخطر القضايا التي تواجه مصر، ما يؤثر على موارد الدولة، كما حمّل مسؤولون الزيادة السكانية مسؤولية الوضع الاقتصادي الذي عاشته البلاد في السنوات الماضية.

وترى الدولة أن جهودها الملموسة في مواجهة الزيادة السكانية بحملات التوعية انعكست في تراجع أعداد المواليد خلال آخر 5 سنوات بمصر، ما وهو ما تنفيه سامية خضر،  أستاذة علم الاجتماع، وتؤكد أن الدور الملحوظ للدولة كان ملموسًا في عقود سابقة وتمثل في حملات تنظيم الأسرة والتوعية في الراديو والتليفزيون وحتى السينما والدراما، ومن وجهة نظرها، فإن مجهودات الدولة لتنظيم الأسرة حاليًا تمثل 1% مما كانت تبذله قديمًا.

وكثفت الدولة من حملاتها الهادفة لخفض الكثافة السكانية، بالتحذير تارة والتوعية تارة أخرى من مخاطر الزيادة السكانية، من ضمن هذه الحملات حملة "السند مش في العدد.. اثتين كفاية"، التي أطلقتها وزارة التضامن الاجتماعي وحثت من خلالها المواطنين على الاكتفاء بطفلين فقط، كما أطلقت وزارة الصحة حملة أخرى بعنوان "حقك تنظمي" بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان وبدعم من الاتحاد الأوروبي، وعمدت إلى تقديم خدمات تنظيم الأسرة المجانية، إلى جانب المشورة وتنظيم الأسرة والصحة الإنجابية من خلال أخصائيين.

الطريق إلى اللاإنجابية

يواكب الانخفاض في أعداد المواليد تزايد في أعداد الصفحات والتجمعات على السوشيال ميديا الخاصة باللاإنجابيين، وهو ما يطرح سؤالًا حول أثر ذلك في تباطؤ النمو السكاني.

وليست هناك أرقام معروفة للاإنجانبيين في مصر، فصفحاتهم معظمها مغلقة على أصحابها ممن يتبنون أفكارًا ترفض الإنجاب لأسباب يعزونها إلى عدم قدرتهم على تحمل مسؤولية رعايتهم، إلى جانب عوامل أخرى متعلقة بالأوضاع العالمية المحلية.

على سبيل المثال، تشعر داليا محسن، 28 سنة، المُحاضرة والروائية، وهي لاإنجابية، بالأسى تجاه الأطفال الذين يأتون لهذا العالم، فإنجابهم لا يتوقف عند اللحظة التي نحياها الآن، لكنهم سيعانون لحظة اصطدامهم بالحياة في سنوات عمرهم المقبلة، في ظل ما يشهده العالم من حروب ومن تغيرات بيئية وسيطرة من الذكاء الاصطناعي والتضخم، وأخطار أخرى.

تتخوف داليا أيضًا من أن يرث الطفل الذي ستنجبه "أمراضها وجيناتها الصالحة والمعطوبة"، حسب قولها، فهي تعاني من أمراض مزمنة كالسكري والضغط.

ليس من السهل على فتاة تنتمي لمجتمع قروي المجاهرة بآراء مثل  اللاإنجابية

وفي حين اكتفى كارم جابر بطفل واحد، اتخذت داليا قرارًا صارمًا ونهائيًا بعدم الإنجاب، فبالإضافة لقناعاتها، فإنها مع إتمام زواجها قبل عامين ونصف العام، أضيفت إلى هذه القناعات عوامل أخرى، اقتصادية، جعلتها أكثر تشبثًا بقرارها، وكما تقول لـ المنصة فإن "الأمر صعب بالتأكيد ومخيف".

"أحب أسيطر على الأمور في حياتي، ودا مش هيحصل لو قررت أجيب أطفال، ومش عايزة ولادي يلوموني على قرار إنجابهم في عالم مش ضامنة فيه توفير فلوس أو حتى نفوذ وسلطة تضمن لهم وظيفة مناسبة"، تضيف داليا المنحدرة من محافظة الشرقية.

لحسن حظ الروائية الشابة، فإن رفيق حياتها كان لاإنجابيًا هو الآخر، لتحسمَ الكثير من الإشكاليات العالقة، فليس من السهل على فتاة تنتمي لمجتمع قروي المجاهرة بآراء مثل هذه؛ فهي لم تحدث قط عن أفكارها، لتتجنب أن تكون مادةً للتندر أو الانتقاد الحاد في مجتمعها المحافظ، ومحاكمات العصور الوسطى المحتملة حال إعلانها قرارها علنا وبكل وضوح.

"اضطريت أواجه عيلتي ومحيطي بأني قررت منع الحمل بعد الدعوات والصلوات المتكررة والمحملة بالشفقة عشان ما خلفتش بعد سنوات من الزواج"، تقول داليا.

مي أشرف، ذات الـ28 عامًا، ورغم أنها لاإنجابية، لكنها تعرف جيدًا أنها قد تعدل عن قرارها ذات يوم، وإن حدث هذا دون اقتناع، ورضوخًا لشريك حياتها، الذي تعلم جيدًا أنه ربما لن يوافق على رغبتها في عدم الإنجاب.

وتؤكد مي على أن التضخم الذي تضعه نصب عينيها طوال الوقت يقوي من موقفها الرافض للإنجاب، وتقول لـ المنصة "التفكير في الارتقاء بالطبقة الاجتماعية كان طبيعي جدًا قبل التضخم، دلوقتي الحفاظ على طبقتي بقى تحدي حقيقي، فما بالك بعد إنجاب الأطفال".

برأي الطبيبة التي تنحدر من محافظة الشرقية، فإن أعداد اللاإنجابيين في مصر كبيرة جدًا وفي ازدياد، لكنها غير مرصودة لأنهم يخشون المواجهة بقناعاتهم تفاديًا لنيران المجتمع الدينية والثقافية.

طفل واحد يكفي

في المقابل يقلل الدكتور محمد شكر، أستاذ علم الاجتماع، من تأثير اللاإنجابية على تقليل أعداد المواليد في مصر، مؤكدًا أن زيادة الوعي لدى الشباب هي التي انعكست في الاكتفاء بطفل أو اثنين على الأكثر، وهو ما ساهم في التقليل من أعداد المواليد في مصر.

هذا ما يتفق مع استبيان أجرته المنصة على عينة من مقبلين على الزواج والمتزوجين حديثًا، عددها 26 شخصًا تتراوح أعمار غالبيتهم من 25 إلى 45 عامًا، من أصحاب المؤهلات العليا؛ أيد 19.2% منهم فكرة عدم الإنجاب مع ربطها بارتفاع الأسعار التي لا تقابلها زيادات في الدخول. في حين عارضها 80.8% منهم مؤكدين على الاكتفاء بطفل واحد أو اثنين على الأكثر لتوفير حياة كريمة لهم.

حسب الاستبيان، يرى أصحاب النسبة الغالبة أنهم غير قادرين على اتخاذ قرار كبير كقرار عدم الإنجاب، وإن كان أكثرهم يصرون على الاكتفاء بطفل واحد أو طفلين على الأكثر من أجل توفير حياة كريمة لهم.

وبينما استقرت الروائية داليا محسن أخيرًا على أن عدم الإنجاب أسلم الحلول لمواجهة التحديات الاقتصادية والمجتمعية وما قد يحمله المستقبل من أعباء، يتمسك كارم جابر بطفلة وحيدة وكل أمله أن يهيئ البيئة المثالية لها لتحصل على تعليم جيد يمنحها الفرصة في التطور والسفر خارج مصر، حسب قوله.