حين وصلت مظاهرات الحركة المناوئة للحرب في فيتنام ذروتها داخل الولايات المتحدة، وبدت الأمور كما لو كانت تخرج عن سيطرة النخبة السياسية الأمريكية، علَّق هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي، اليهودي، ومستشار الأمن القومي حينها، "لقد خضنا حربًا عسكريةً؛ بينما خصومنا خاضوا معركة سياسية. سعينا للاستنزاف المادي، بينما كان خصومنا يهدفون إلى إنهاكنا النفسي. وفي هذه العملية فاتنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: إن حرب العصابات تفوز بها الميليشيا إذا لم تخسر. والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر".
بالفعل، تختلف الصراعات ذات الطابع الاستعماري/التحرري عن الحروب التقليدية. ففي الحرب التقليدية، القائمة حول مصالح استراتيجية أو صراعات إقليمية بين دولتين، يكفي أن يحرز خصمك تقدمًا على الأرض ليدَّعي النصر. إنها حرب تحسمها القوة.
يختلف الأمر في الصراعات الطويلة ذات الصبغة الاستعمارية/التحررية، فغالبًا ما تحسمها "قوة الضعف"، عندما تستغل جماعات التحرر، الأضعف عسكريًا، قوة المستعمر لصالحها.
قوة الضعف في الحالة الفلسطينية
يفترض المحلل الأمريكي اليهودي جون ألترمان أن حماس تهدف لاستخدام قوة إسرائيل لصالحها، بما يشمله هذا من قتل المدنيين، وتدمير البنية التحتية، وتحدّي الدعوات العالمية لضبط النفس؛ كل هذه الأمور تعزز أهداف حماس الحربية.
يفسر ألترمان مفهوم "قوة الضعف"، بأن يعمل الطرف الأضعف على إقناع الناس، من خارج جماعته، بعدالة قضيته، وبأنه ضحية ظلم وقمع وحشي من الطرف الأقوى. فتبدأ الأطراف الأخرى في التعاطف معه، واتخاذ موقف لتغيير الظلم الواقع عليه.
وكلما تمكن الطرف الأضعف من إقناع عدد أكبر من الأطراف بعدالة قضيته؛ كلما حقق مكاسب سياسية على حساب خصمه، وهو ما نجحت فيه بشكل كبير المقاومة الفلسطينية، وامتدادها الثقافي الداعم المتمثل في جماهير من أصول عربية أو دوائر متعاطفة مع القضية الفلسطينية.
لم يتوقف نجاح المقاومة على هذا الحشد فقط، بل امتد إلى ما هو غير متوقع. بدأت دوائر جديدة تدعم الحق الفلسطيني علنًا، حتى داخل المعاقل التقليدية المؤيدة لإسرائيل، بما في ذلك الخارجية الأمريكية نفسها التي شهدت موجة استقالات بين موظفيها احتجاجًا على الدعم الفج لإسرائيل في حربها الوحشية.
تحولت قضية فلسطين إلى أيقونة عالمية للاحتجاج على الازدواجية والنفاق الذي تُمارسه حكومات غربية، تقبل بقرارات الشرعية الدولية فقط إذا ما تقاطعت مع مصالحها، كما في حالة أوكرانيا، بينما ترفض القرارات الأممية، وتهدد قضاة دوليين بالعقاب والابتزاز إذا ما تعارضت قراراتهم مع مصالحها.
بل وصل الأمر حد فرض عقوبات على المؤسسات القضائية الدولية، حيث أقر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون يفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، في حال استهداف حلفاء الولايات المتحدة!
يؤدي قرار مجلس النواب الأمريكي إلى إضعاف البنية القضائية الدولية بشكل كبير، ويحوّل الولايات المتحدة إلى دولة مناوئة لقواعد القانون الدولي، وهو ما يشجع دولًا أخرى على اتباع النهج نفسه.
دفع هذا التوجه البعض إلى انتقاد موقف الولايات المتحدة وإدارة بايدن في كبريات المجلات المتخصصة الأمريكية، حيث ظهرت كمن يحرق بيته لأنه يخشى أن تصيبه العاصفة، عندما غامرت بتدمير النظام الدولي الذي هندست له منذ عقود، مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
كذلك دفع تصاعد الرفض العالمي للممارسات الغربية المنحازة، ثلاث دول أوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية. كما دفع دولًا أخرى للتراجع عن مواقفها الداعمة لإسرائيل والمطالبة بإنهاء القتال، منها فرنسا، التي تدعو الآن لوقف إطلاق النار. الحال نفسه تبدّل في ألمانيا التي كانت من أشد المناصرين لإسرائيل تحت ذريعة الدفاع عن النفس، واليوم تطالب بوقف القتال.
بدأت قوة الضعف الفلسطينية تحقق أهدافًا سياسيةً رغم التفوق الإسرائيلي العسكري الساحق على أرض المعركة.
كيف تصاعدت الضغوط؟
تغري القوة إسرائيل للانتقام، بعد أن باتت قدرتها على تحقيق أهدافها المعلنة للحرب محلَّ شك. وهنا ظهرت معضلة القوة الإسرائيلية، التي كلما بالغت في وحشيتها، عرَّضت نفسها لمزيد من الانتقادات وتزايدت عزلتها الدولية.
لم يكن أحد في إسرائيل يتخيل أن يقف نائب في البرلمان الأيرلندي متمنيًا أن يحترق رئيس وزراء إسرائيل في الجحيم لمسؤوليته عن قتل الأطفال والأبرياء، أو أن تردد مسؤولة في الحكومة الإسبانية شعار "فلسطين حرة من النهر إلى البحر".
رغم انحيازات بايدن وإدارته، والغالبية الكاسحة من النخب الحاكمة في واشنطن، إلا أن أحدًا لا يمكنه تجاهل تصاعد الضغوط الدولية والداخلية في مؤسسات أكاديمية، وأوساط المجتمع المدني والفني والثقافي والشارع، وحملة "اللا ملتزم" التي تدعو لعدم الالتزام بمرشح الحزب الديمقراطي، وتصعِّب فرص بايدن في الانتخابات الرئاسية.
مع ذلك، دفعت الضغوط الناجمة عن استخدام القوة المفرطة ضد الشعب الأعزل، إدارة بايدن، لتقديم عرضٍ لوقف إطلاق النار.
ظهر الأمر وكأنه تغييرٌ في اللهجة الأمريكية، ففي عرضه لوقف إطلاق النار في آخر مايو/أيار، وصف بايدن عرضه بأنه خطة إسرائيلية، وهو ما نفته إسرائيل، التي رفضت الطرح الأمريكي على لسان نتنياهو. وهو للمفارقة نفس الذريعة الإسرائيلية لرفض عرض أول مايو لوقف إطلاق النار، الذي وافقت عليه حماس، لكنها هذه المرة اتهمت مصر بتحريف العرض، وأيدتها الدوائر الأمريكية في هذا الاتهام. الآن تشرب الإدارة الأمريكية من نفس الكأس.
صعَّد بايدن من لهجته في بوست على حسابه الرسمي على فيسبوك "هذا الاتفاق يجب أن يتم"، وهو ما يعكس انزعاجًا معلنًا من ألاعيب نتنياهو، الذي يستغل نفوذه داخل الكونجرس في مناورة إدارة بايدن، غير القادرة على تفكيك الضغوط.
وجَّه الكونجرس دعوة لنتنياهو لإلقاء كلمة في اجتماع مشترك لمجلسي النواب والشيوخ، ليصبح الزعيم الأجنبي الوحيد الذي ألقى خطابًا أربع مرات في الكونجرس. يعني هذا أن نتنياهو لم يزل في موقف قوي نسبيًا داخل واشنطن، لكن هل خصمت قوة الضعف الفلسطيني من رصيده داخل نخب واشنطن؟
ربما حدث ذلك، لكن ليس بالدرجة الكافية لتغيير معادلات القوة جذريًا. المؤكد أن قوة الضعف الفلسطيني خصمت من رصيد خصمها، وأصبحت أيقونة تحشد مزيدًا من الداعمين كل يوم.