قد ترى السلطة في مصر أنَّ تكوين اتحاد للقبائل العربية برئاسة رجل الأعمال وأبرز رجال قبيلة الترابين إبراهيم العرجاني، يأتي في سياق الدفاع عن سيناء، التي تواجه اليوم خطرًا جديدًا إثر الحرب الإسرائيلية على غزة، إلا أنَّ هذه الرؤية تجبُّ وتتجاوز تصورات أخرى أكثر أمانًا ورسوخًا وأقل خطورةً بوسعها الإسهام إلى حد كبير في حماية سيناء بتعزيز دمجها بالجسد الوطني المصري.
هذه التصورات تأخذ في الاعتبار، دون شك، أنَّ سيناء في خطر جراء غبن اجتماعي مزمن، ربما صنع انفصالًا شعوريًا عن أهلها، وجعل بعض الجماعات الإرهابية تتوهم أنَّ أرض الفيروز يمكن أن تصبح وطنًا بديلًا لها، وفق عادة هذه الجماعات في اقتطاع جزء من الدول وإنشاء إمارة داعشية إرهابية عليها، تكون بالطبع تابعة لمن يمولها من أجهزة المخابرات الأجنبية.
وسيناء في خطر إن تحولت إلى ساحة لتصفية صراعات بين أجهزة مخابرات إقليمية، وكذلك في ظل مطامع إسرائيل فيها، التي تسندها إلى خلفيات دينية مزعومة، ومصالح استراتيجية مستقرة في الذهن الإسرائيلي، ثم ظهر طرح مسألة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء ليعزز الخطورة، بغض النظر عن كونه وهمًا أو حقيقةً.
كيف نواجه كل ذلك؟
لمواجهة هذه الأخطار، علينا أن نحدد المشكلات الجوهرية التي تعاني منها سيناء بعد الإلمام بتقارير التنمية البشرية الخاصة بمحافظتي جنوب سيناء وشمالها، والصادرة عن وزارة التخطيط والتنمية المحلية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكذلك بعد متابعة أهم التقارير الدولية الخاصة بالتنمية البشرية والاجتماعية في مصر، مع الكثير من كتابات الباحثين والمحللين المصريين والبحوث والدراسات الصادرة عن بعض مراكز الأبحاث المصرية حول شبه الجزيرة، ثم القيام بدراسات ميدانية حديثة.
إننا في حاجة إلى دراسة رأس المال البشري في سيناء وسبل توظيفه، ودراسة جغرافيا سيناء وطبوغرافيتها من حيث البنية الطبيعية لعملية التحديث والتنمية، وإمعان النظر في حالها من التحرير إلى التعمير، لا سيما جهود التنمية ومعوقاتها، والوقوف على أوجه القصور في التعامل مع مختلف مشكلاتها، وسبل تعزيز الأنشطة السياحية فيها.
وهنا لا بد من خطة عمل أكثر نجاعة للاستثمار الزراعي واستغلال الثروة النباتية والمائية، واستغلال أمثل للثروة المعدنية، وتعميق التصنيع. ويرمي بعض هذا إلى مواجهة البطالة بين شباب البدو التي هي مرتفعة عما سواها في أنحاء الجمهورية، رغم أنَّ غالبيتهم من المتعلمين.
من الضروري وضع استراتيجية لتعزيز اندماج أهل سيناء تعنى بالتعريف بثقافتهم والاعتراف بتقاليدهم
فسيناء لم تعد فقط فلكلورًا وقضاءً عرفيًا وأعشابًا طبية وملابس مطرزة من برقع وعقال ووشم وأشناف، إنما أيضًا هناك موظفون في القطاعات الحكومية، وجامعة خاصة نشأت على أراضيها، وهناك موارد كذلك، وكله يمثل بيئة اقتصادية جيدة. وفي المقابل، هناك هموم ومشكلات يومية للمواطن السيناوي تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها والسعي لحلها، ترتبط بالحالة الاقتصادية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
يجب أن يترافق كل هذا مع تحديث سياسي لا يجور على أي فضيلة موجودة، ظاهرة أو كامنة في ترتيب المعاش وفق التقاليد والأعراف القبلية، وتحديث اجتماعي يرمي إلى خلق شريحة عريضة وسيطة بين البدو وأهل الحضر الذين سكنوا سيناء، فيشدُّ هذا ذاك في ليونةٍ ومرونةٍ، دون عنتٍ ولا خشونةٍ.
ونحن في حاجة إلى إجراءات عملية لتعزيز دمج أهالي سيناء، تأخذ ابتداءً في اعتبارها تفعيل دور المجتمعات المحلية، وقيام الدولة بما عليها من واجبات في تفعيل المشاركة السياسية لأبناء قبائل سيناء، والنظر إلى هذا بشكل أكثر عمقًا حتى من ذلك المُتَّبع في المجتمعات السكانية على ضفاف النيل.
ضرورة الدمج
ورغم أنَّ سيناء دخلت منذ وضع دستور 1923 في تقسيم الدوائر الانتخابية من حيث الترشيح والانتخاب، ثم دخلت ضمن وحدات قانون الحكم المحلي عام 1960 بعد أن وضعتها حكومة الثورة منذ عام 1952 محل اهتمام، فمدَّت إليها جميع مظاهر سيادة الحكم، ليبدأ الاندماج تدريجيًا في الوادي، إلا أنَّ الاحتلال الإسرائيلي لسيناء في 1967 أثر في هذا المسار، لتصبح شبه الجزيرة ساحة للحرب ومنطقة نزاع.
ولا بد أن يمارس ما تبقى من المجتمع المدني دوره في تحقيق هذه المشاركة، ويسهم كذلك في تعزيز التواصل والاعتماد المتبادل بين شمال سيناء وجنوبها. ولا بد أيضًا من وجود استراتيجية لتعزيز التواصل المجتمعي بين أهلها وكل من الوادي والدلتا، خصوصًا بين بدو سيناء والقبائل العربية، لكن بطريقة تختلف عن "تكوين العرجاني"، وحل المشكلات المتعلقة بقضايا الجنسية والمواطنة وتملك الأراضي.
ومن الضروري أيضًا وضع استراتيجية لتعزيز الاندماج الثقافي لأهل سيناء، تعني أولًا بالتعريف بثقافتهم، والاعتراف بتقاليدهم، وتمويل مشاريع تعمل على حفظ الفلكلور بمختلف ألوانه وأشكاله. وتشمل هذا الاستراتيجية أيضًا إنشاء فروع أكثر للجامعات الحكومية والخاصة، وتعزيز التواصل بين الطلاب في الوادي والدلتا وسيناء، لمعرفة الثقافات المتباينة والتعرف على أبناء الوطن عن قرب.
إن الثقافة والرياضة بوسعهما لعب دور مهم في هذا، كأن تكون هناك خطة لصناعة نجم سينمائي أو في الدراما التلفزيونية أو مطرب من سيناء، أو يكون من أهلها باحث أو كاتب موهوب يُفتح المجال أمامه ليطل بما ينتجه على الوطن بأكمله. وهنا أيضًا لا بد من وجود طرق عملية للتعرف على قبائل سيناء ونشر ثقافتهم وتراثهم الشعبي. ومن الضروري أن يكون هناك فريق كرة قدم باسم "سيناء" يُعزز بلاعبين جيدين، ويكون مؤهلًا للعب في الدوري الممتاز.
لم يعد تكريس الاهتمام الخاص بسيناء من باب الرفاهية أو العمل الثانوي، بل هم أصيل لا بد أن ينطلق من حقيقة أكدها عالم الجغرافيا المصري الكبير جمال حمدان، أنَّ التعمير البشري والعمراني يمتزجان بمشاريع الدفاع، وأنَّ تخطيط تعمير سيناء القومي لا بد وأن يكون لملء الفراغ، وهو الخطوة الأساسية نحو تمصيرها تمصيرًا متينًا، وإلى الأبد.
إن سيناء وأهلها يبقيان في الذاكرة المصرية الحديثة، كما في التاريخ، من الرموز الكبرى لمفردات الأمة المصرية والشعور الوطني الفيّاض، خاصة وأنها آخر نقطة حررها المصريون بأرواحهم ودمائهم من الاحتلال الإسرائيلي، لكنَّ هذا التحرير يكتمل حين نحميها إلى الأبد، بدمجها في الجسد الوطني المصري.