في سبعينيات القرن العشرين، وبينما كان أنور السادات يخوض مغامرة السلام مع إسرائيل، ردد معارضو سياساته والمشككون فيها مقولة "يا خوفي في يوم النصر ترجع سينا وتروح مصر". فماذا لو مرَّ الزمان علينا لتصبح سيناء ومعها مصر مهددتين فعلًا بالضياع؟
الأمر ليس مبالغةً ولا مجازًا، فالوحدة السياسية الجغرافية التي تُسمَّى مصر، وكأيِّ بلدٍ آخر، ليست إلا ثروةً وقرارًا وسيادةً وشعبًا سعيدًا. سيادتها على ثروتها وعلى قرارها وعلى أرضها، وقبل كلِّ ذلك شعب يكدح ويأمل في مستقبلٍ أفضل يعيش فيه بكرامةٍ وإنسانيةٍ، فأين كلُّ هذا؟
تعربد إسرائيل على حدودنا مطمئنة لسلامنا المديد معها، تُبيد الفلسطينيين دون أيِّ مجازٍ أو مبالغةٍ، في الوقت الذي أصبح فيه قطاع واسع من المصريين على حافة الجوع، خلجاننا البحرية تباع لمستثمري الخليج لسداد فوائد الديون وأصولها التي تتصاعد منتصبة كالبرج الأيقوني، تفتح مصر ذراعيها للاجئين من السودان واليمن وسوريا وينصهرون فيها انصهارًا، لأنَّ اللاجئين المصريين في مصر ليسوا أفضل حالًا.
وها هم الفلسطينيون المعرّضون للإبادة والاستئصال يدقون أبواب سيناء أملًا في النجاة من محرقة لا تتوقف، فيما أصبح يُطلق على سيناء شبه جزيرة العرجاني، حيث تزداد الصورة غموضًا يومًا بعد يومٍ، ويزحف بالتدريج شعور كئيب بتهديد سيادة الأمة المصرية عليها، مع تحوُّل إسرائيل إلى كيانٍ مسعورٍ منفلتٍ لا يمكن التنبؤ بسلوكه المستقبلي دون إدراك طوره المستذئب الجديد المشمول بغطاءٍ إمبراطوريٍّ أمريكيٍّ غير مسبوق في عدوانيته وإجرامه وقصر نظر حساباته.
علينا تذكُّر أنَّ مصر لم تسوِّق كامب ديفيد باعتبارها جنوحًا للسلم اختارته إذعانًا منها لفارق القوة مع إسرائيل، بل باعتبارها المدخل لتحقيق الرخاء الاقتصادي والاندماج في السوق العالمية والحصول على التكنولوجيا الحديثة. كان السلام جزءًا من حزمة وعودٍ بالرخاء والتقدم والديمقراطية والحرية، فأين نحن الآن وما الذي تبقى من كل ذلك؟
جانب رئيسي وحاسم من توافق الطرفين المصري والإسرائيلي على الالتزام الصارم بالاتفاقية طوال عقود، قناعة الطرفين باستحالة الحسم العسكري لأحدهما ضد الآخر، ورسخَّت حرب أكتوبر 1973 هذه القناعة، لكن ماذا لو سعى الإسرائيليون وتمكنوا على مدى عقود من فرض إرادتهم السياسية وتصوراتهم الاستراتيجية علينا دون حرب، وبالتدريج، فهل للمعاهدة أيّ معنى إلا كونها تخصم من استقلال مصر؟
شكَّلت استعادة مصر سيناء كاملة من إسرائيل حجر الزاوية في تسويغ كامب ديفيد وشرعنتها لدى قطاعات واسعة من الشعب المصري، وبنفس الكيفية سيصبح تهديد سيناء، بصيغة أو بأخرى، هو المدخل لإعادة النظر في الاتفاقية وإمكانية استئناف الصراع، بصيغة أو بأخرى، مع إسرائيل، بصرف النظر عن شبكات المصالح التي تكوَّنت وتعقدت بين أطراف في البلدين خلال فترة السلام الطويلة.
لماذا تقادمت كامب ديفيد
تقادمت اتفاقية كامب ديفيد كما تصوَّرتها مصر وقت توقيعها، كإطارٍ ينظم العلاقات العربية مع إسرائيل يمكن أن تلعب انطلاقًا منه دورًا إقليميًا محوريًا وحاسمًا. وبعد محاولات مبارك في تسعينيات القرن الماضي السعي لإقرار تسوية مقبولة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أصبح مفهومًا أنَّ الاتفاق المصري مع إسرائيل ليس إلا اتفاقًا ثنائيًا بين بلدين.
مهمة الجيوش أن تبقى مستعدةً دائمًا لمواجهة الأعداء الاستراتيجيين لا أن تُصدِّر لنا مخاوفها
فمن زاوية؛ أثبتت إسرائيل عشرات المرات أنها بلد لا يمكن مسالمته، خاصة بعد الاجتثاث السياسي للمكون الأكثر ميلًا للتسوية السياسية وبتصاعد منذ منتصف التسعينيات، إسرائيل أيضًا أظهرت خلال عقود وجودها في المنطقة رفضًا حقيقيًا للاندماج فيها على قواعد التعاون والخيرية، فهي إما كيان عدواني محارب أو كيان متقوقع حول نفسه ينسج الصلات المتينة مع كلِّ الأنظمة والمكونات العربية المعادية للتحرر والتقدم وإرادة الشعوب، حتى أصبحت إسرائيل نموذجًا لهؤلاء على مستوى المخيال السياسي والتحقق الحداثي.
ومن زاوية أخرى ذهبت دولٌ خليجيةٌ كثيرةٌ بعيدًا في توثيق روابطها مع إسرائيل، وأصبح مشروع تلك الدول أكثر إيذاءً من إسرائيل نفسها على مستوى الضرر الاقتصادي والعسكري والأمني التي ألحقته بأغلب الدول العربية.
ومن زاوية ثالثة، أصبحت سيناء مهددةً بالفعل، بعد أن فشلت مصر في إلحاقها ديمغرافيًا بوادى النيل وسكانه. وبالرغم من أنَّ عدد سكان شمال سيناء لا يتجاوز نصف مليون نسمة، فإنَّ سيادة الدولة على الجغرافيا السيناوية لم تعد ممكنةً إلا من خلال تشكيلات قبلية تدين بالولاء لها.
لا يمكن أيضًا التغاضي عن أنَّ الأطماع الإسرائيلية صارت تعلن عن نفسها بوضوح بإدخال شبه الجزيرة في فوضى ضاربة مع إزاحة الفلسطينيين إليها، فإسرائيل تدرك جيدًا أنَّ شرط بقائها هو الحفاظ على مصر في وضعٍ ضعيفٍ وموقعٍ مرتبكٍ، فما بين إسرائيل ومصر هو عداءٌ وجوديٌّ تضبطه اتفاقية تحظى برعايةٍ دوليةٍ.
تقادم كامب ديفيد مهم أيضًا على المستوى المصري الداخلي، فعلى الجيش المصري ألَّا يرتكن على هذه المعاهدة كصيغةٍ أبديةٍ تتشكَّل أدواره المحلية والإقليمية في ظلها، فالبلاد بحاجة إلى جيشٍ يضع الصراع مع إسرائيل أولويةً يقظةً على أيِّ مهمةٍ أخرى أيًا كانت. وعليه؛ كانت كامب ديفيد هي المسوغ الذي أتاح للمُركَّبات العسكرية والأمنية حضورًا أكبر في عالم الأسواق والمنافسة الاقتصادية المحلية.
أنتجت كامب ديفيد أيضًا مُركَّبات سياسية واقتصادية محلية أخذت هذه البلاد إلى الوراء، وما أقوله ليس عنترياتٍ تدعو إلى الحرب ولكنها دعوة إلى اليقظة والاستعداد، وعلينا ألا نخاف من الحرب، ذلك أنَّ مهمة الجيوش أن تبقى مستعدةً دائمًا لمواجهة الأعداء الاستراتيجيين، لا أن تُصدِّر لنا مخاوفها لنجد أنفسنا أسرى في غياهب بؤس رعديد مديد.
لقد استثمرت حقبة خلجنة الشرق الأوسط في جعل إيران هي العدو الاستراتيجي الأول للشعوب العربية، لكنَّ مصر ليست مجبرةً على تبني هذه الرؤية ولا الانطلاق منها. ففي التحليل الأخير، يمكن لحكم الملالي في إيران أن ينتهي، ويمكن أن يجد لنفسه صيغ تسوية داخلية بعد وفاة خامنئي، ويمكن له المرور بتحولات تدريجية أو عنيفة، لكن في كل الأحوال، ستبقى الأمة الإيرانية، سواء كانت تحت حكم نظام إسلامي شعبوي أو قومية فارسية متعالية، وهو ما لا ينطبق على إسرائيل كدولة استعمارٍ استيطانيٍّ توسعيٍّ تعادي المُركَّبات السكانية في المنطقة وتتوعدها بالإبادة في لحظات الانفلات والجنون.
ربما كتابتي هذه عن عهدٍ جديدٍ لم يولد بعد، لكنَّ المؤكد عندي أن عالم كامب ديفيد يشارف الآن على الانتهاء، وعلى مصر الاستعداد لذلك، أيًا كانت أحوالها أو تحولاتها المرتقبة.