لماذا تسلّم الدولة موانيها للأجانب؟
في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أُعلن عن اتفاق بين وزارة النقل والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار ومؤسسة التمويل الدولية ومؤسسات أخرى لتمويل مشروع محطة الحاويات الثانية في ميناء دمياط، بقيمة 250 مليون دولار، في واحدة من أكبر صفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر خلال العام الماضي.
هذه التمويلات لم تحصل عليها الحكومة المصرية، لكن تم توجيهها لمجموعة تضم شركتين ألمانيتين وشركة إيطالية، من عمالقة هذه الصناعة عالميًا، في مقابل إنشاء وإدارة المحطة لمدة ثلاثين عامًا، حيث ترى الحكومة أن مثل هذه الشراكات مع القطاع الخاص تخفف من أعباء تمويل التنمية الملقاة عليها.
يتتبع هذا التقرير أبرز مشروعات تطوير المواني التي تتطلع الدولة لطرحها على القطاع الخاص في الفترة المقبلة، ويسعى لتفسير سبب إقبال الدولة على التوسع في هذا النمط من الشراكات مع المستثمرين، خاصة من الأجانب.
وحسب ما أوضحته المصادر المتابعة لهذه المشروعات لـ المنصة فإن الاحتياج للكيانات الأجنبية ازداد مع تفاقم أزمة نقص النقد الأجنبي منذ 2022، بجانب الحاجة للخبرات الأجنبية في إدارة هذه المشروعات لتحقيق أهداف الدولة بتحويل موانيها إلى موانٍ محورية بوسعها استقبال شاحنات أكثر ضخامة، والوساطة في ربط مناطق تجارية أوسع نطاقًا، رغم المخاوف المثارة من السيطرة الأجنبية على هذه الأنشطة الاستراتيجية، التي تحاول وزارة النقل التقليل منها.
سبعة مشروعات جديدة
تضع هيئات المواني الحكومية سبعة مشروعات جديدة لتطوير الخدمات في المواني على رأس أجندة الأعمال التي تنوي التعاقد عليها مع القطاع الخاص خلال عامي 2024 و2025، حسب ما قالته ثلاثة مصادر حكومية في الهيئات المعنية بطرح هذه المشروعات لـ المنصة.
تضم قائمة المشروعات المستهدف التعاقد عليها، وفقًا للمصدر الأول، وهو عضو في مجلس إدارة هيئة ميناء الإسكندرية، إدارة وتشغيل محطتين بحريتين بميناء الدخيلة، ومحطة ركاب في الميناء نفسه، هذا بجانب مشروع المنطقة اللوجيستية في ميناء الإسكندرية.
ويعد مشروع المنطقة اللوجيستية أحد أضخم مشروعات تطوير المواني في الوقت الحالي، فمن المخطط أن يمتد على مساحة 273 فدانًا، وهو من أقرب مشروعات الهيئة للتنفيذ، بالنظر إلى الاتفاق المبدئي مع تحالف شركات الهندسية للصناعات والتشييد، والصينية للاتصالات والإعمار، والصينية للطرق والجسور، على تنفيذه.
ويقول المصدر إن وزارة النقل تنتظر استلام تفاصيل خطة إدارة المنطقة أواخر مارس/آذار المقبل، و"فور استلام الخطة وتقييمها سيتم تحديد النهائي لإبرام العقود".
من جهة أخرى، قال عضو في مجلس إدارة الهيئة الاقتصادية لقناة السويس لـ المنصة إن ثلاثة مشروعات مستهدف إسنادها لشركات القطاع الخاص بميناء السخنة، فيما قال مسؤول بهيئة ميناء دمياط إن من أبرز مشروعاتها "محطة تحيا مصر 2" متعددة الأغراض، خلف الحاجز الغربي، ومشروع إنشاء محطة للحبوب والغلال في دمياط.
ويعد مشروع محطة تحيا مصر 2 متعددة الأغراض من أقرب المشروعات للتنفيذ أيضًا في ميناء دمياط "الهيئة تلقت خلال الفترة الماضية عدة عروض عالمية من خطوط ملاحية لاقتناص المشروع، ومن المرجح أن يتم التعاقد نهاية العام الحالي"، كما يقول المصدر.
أبرز المشروعات المطروحة على المستثمرين في قطاع المواني
الجهة الحكومية | اسم المشروع | |
---|---|---|
هيئة ميناء الإسكندرية |
إدارة وتشغيل محطتين بحريتين في ميناء الدخيلة للصب الجاف النظيف والصب الجاف غير النظيف |
|
هيئة ميناء الإسكندرية |
إدارة وتشغيل محطة ركاب بميناء الدخيلة |
|
هيئة ميناء الإسكندرية |
إدارة وتشغيل المنطقة اللوجيستية |
|
ميناء السخنة |
إدارة وتشغيل محطة صب سائل |
|
ميناء السخنة |
رصيف للبضائع الكيماوية القابلة للاشتعال ورصيف فحم وساحات تداول |
|
ميناء دمياط |
محطة تحيا مصر 2 متعددة الأغراض |
|
ميناء دمياط |
محطة للحبوب والغلال |
توسعات القطاع الخاص خلال السنوات الأخيرة
خلال العام الماضي افتُتحت محطة ميناء الإسكندرية متعددة الأغراض "تحيا مصر"، التي وصفها وزير النقل كامل الوزير بأنها "أول محطة يتم تنفيذها باستشاري مصري وشركات مصرية وبأموال مصرية ومملوكة بالكامل لهيئات ومؤسسات مصرية".
وخلال افتتاح محطة الإسكندرية العام الماضي، علَّق الرئيس المصري على تطلعاته لتعميق الدور المصري في تطوير المواني المصرية، قائلًا "احنا قبل كده كنا نقول للمستثمر خُش (..) احنا معملناش كده في النموذج دا، في النموذج دا احنا قولنا لكل الناس احنا حنعمل حاجتنا ونطرحها وتيجي تشغلها (..) مشينا بنموذج تاني (..) آه مكلف علينا شوية (..) الكلام دا حتلاقوه في إسكندرية، وحتلاقوه في أبو قير، وحتلاقوه في العريش، وحتلاقوه في جرجوب (..) وحتلاقوه في السخنة".
وتتميز تجربة محطة الإسكندرية متعددة الأغراض بأن الدولة تمهد البنية الأساسية للمستثمر الأجنبي، ويقوم الأخير بإنشاء البنية الفوقية للمحطة، بينما في هذه التجربة تم الاعتماد على شركة "المجموعة المصرية للمحطات متعددة الأغراض" في القيام بدور المستثمر الأجنبي، وهي الشركة التي تأسست في 2018، لتكون ذراعًا استثمارية لوزارة النقل.
لكن لم تقدر الدولة الاستغناء عن الخبرة الأجنبية في الإدارة، حيث أُعلن في 2021 عن منح شركة CMA – CGM الفرنسية حق إدارة وتشغيل المشروع، بالشراكة مع المجموعة المصرية.
وفي اتفاقات لاحقة، جرى الاعتماد من جديد على الأجانب بصورة أكبر، حيث يقول المصدر بالهيئة الاقتصادية لقناة السويس "تنفذ شركة هاتشسون الصينية أعمال البنية الفوقية بمحطة الحاويات بميناء السخنة، كما ستتولى شركة دمياط أليانس لمحطات الحاويات، المنبثقة من تحالف شركات يوروجيت، كونتشيب، هاباج لويد، تنفيذ البنية الفوقية لمحطة تحيا مصر 1 بميناء دمياط".
وتم الاتفاق بين ميناء دمياط وشركة دمياط أليانس على تطوير البنية الفوقية لمحطة تحيا مصر 1 في مايو/أيار 2022، الذي أشرنا له في مقدمة التقرير، وفي 2023 أعلنت هاتشيسون الصينية عن استثمارات بقيمة 700 مليون دولار، لتطوير محطتي حاويات في ميناءي الدخيلة والسخنة، الذي يكتسب أهمية من كونه يخدم مشروع ربط نشاط الحاويات بين البحرين الأحمر والمتوسط.
وخلال العام الماضي أيضًا تم توقيع الاتفاق مع مجموعة مواني أبوظبي على إنشاء وإدارة وتشغيل محطة سفاجا 2 بميناء سفاجا، ضمن مشروعات عدة تخطط لها المجموعة بمصر، باستثمارات 200 مليون دولار، وستتولى المجموعة إنشاء البنية الفوقية للمحطة.
لكن المجموعة المصرية للمحطات متعددة الأغراض لم تكن بعيدة تمامًا عن اتفاق ميناء أبوظبي، حيث قالت مواني أبو ظبي في بيان إنها وقعت اتفاقًا مع الذراع الاستثمارية لوزارة النقل للتعاون في تطوير وتشغيل المحطة.
كما لم تكن كل الصفقات للأجانب، ففي 2022 تم الاتفاق على إنشاء وإدارة وتشغيل محطة الحاويات 2 بميناء شرق بورسعيد، مع شركة قناة السويس للحاويات، وهي مصرية أجنبية مشتركة، وفي العام نفسه تم الاتفاق على إنشاء وإدارة المحطة متعددة الأغراض بالرصيف الغربي لميناء شرق بورسعيد مع تحالف شركتي سكاي لوجستيك وريلاينس المصريتين.
بعض مشروعات المواني التي تم تخصيصها لمستثمرين من القطاع الخاص
اسم المشروع |
الجهة المنفذة |
إدارة وتشغيل مشروع المحطة المتعددة الأغراض تحيا مصر، بميناء الإسكندرية |
CMA – CGM الفرنسية |
إدارة وتشغيل محطة الحاويات تحيا مصر 1 بميناء دمياط |
تحالف شركات يوروجيت ألمانيا وكونتشيب إيطاليا وهاباج لويد ومجموعة الشرق الأوسط للوجستيات والشركة الهندسية للحاويات |
إنشاء وإدارة وتشغيل رصيف 100 بميناء الدخيلة |
تحالف HPH, MSC |
إنشاء إدارة وتشغيل محطة الحاويات بميناء السخنة |
تحالف الخطوط الملاحية العالمية المكون من HPH – COSCO – CMA CGM |
محطة سفاجا 2 |
مجموعة مواني أبوظبي |
محطة الحاويات 2 بميناء شرق بورسعيد |
شركة قناة السويس للحاويات |
تصميم وإنشاء وإدارة وتشغيل وصيانة وإعادة تسليم المحطة بالرصيف الغربي لميناء شرق بورسعيد |
تحالف شركتي سكاي لوجستيك وريلاينس |
إدارة وتشغيل 3 محطات بحرية مخصصة للركاب في مواني سفاجا، والغردقة، وشرم الشيخ |
مجموعة مواني أبوظبي |
لا يعد دخول الأجانب أمرًا جديدًا على نشاط المواني في مصر، إذ بدأ الحضور البارز للاستثمارات الأجنبية في هذا المجال خلال العقود الأخيرة.
شهد العقد الأول من الألفية تولي هاتشيسون بورت الصينية إنشاء وإدارة محطتي حاويات في ميناءي الإسكندرية والدخيلة، وشراء مواني دبي العالمية 90% من شركة تطوير ميناء السخنة المشغلة لرصيف الحاويات في الميناء، ودخول ميرسيك الدنماركية في شراكة على إدارة محطة تداول الحاويات في ميناء شرق بورسعيد.
وهو التوجه الذي شهد عودة قوية خلال الفترة الجارية، حيث يقول نائب رئيس الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس الأسبق، اللواء محفوظ طه، إن هذا النوع من الاتفاقات شهد انتعاشة واضحة خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
ويقول طه لـ المنصة "بدأت الحكومة تتوسع في هذا الاتجاه عام 2020 من خلال مشروعات البنية التحتية والتطوير الذي تشهده المواني، وزادت الحكومة تركيزها على القطاع الخاص الأجنبي لأنه الأكثر قدرة على الإدارة والتشغيل وتحقيق الربح وسداد التزاماته تجاه الدولة".
وأضاف "القطاع الخاص المصري ما زال لا يتمتع بنفس قدرات نظيره الأجنبي، سواء على مستوى الإدارة أو التسويق أو المعاملات المالية".
ويقلل طه من مخاوف السيطرة الأجنبية قائلًا إن "العالم كله يعمل بهذا المفهوم، الدولة تظل المالك لكن تسند حقوق الإدارة والتشغيل للقطاع الخاص".
ويتفق المصدر بالهيئة الاقتصادية لقناة السويس مع الرأي السابق، حيث يرجع كثافة الوجود الأجنبي في النشاط البحري إلى ثقة وزارة النقل في خبرة الشركات العالمية، بجانب دور هذه التعاقدات في تخفيف عبء الاستثمار عن الدولة، وقدرتها على تحقيق عوائد دولارية للحكومة.
ويقول المصدر بالهيئة الاقتصادية لقناة السويس "الوزارة في كافة عقودها المبرمة مع التحالفات والشركات العالمية تحصل على مقابل بالدولار أمام كل حاوية يتم تداولها، فضلًا عن أن المشغل للمشروع ملزم بتحقيق حد أدنى سنوي من البضائع الصادرة والواردة والترانزيت، وفي حالة إخفاقها يتم تغريمه بقيمة الفارق".
واستشهد المصدر بالاتفاق المبرم مع شركة مواني أبوظبي على إدارة محطة حاويات سفاجا 2 قائلًا "هيئة مواني البحر الأحمر، أو الحكومة عمومًا، ستحصل على 10% على كل حاوية يتم تداولها، تُضاف إليها قيمة حق الانتفاع بالأراضي الذي يسدد سنويًا، بنسبة زيادة متصاعدة. وهذه البنود مطبقة على كل الشركات لكن هناك اختلافًا في تسعير مقابل حق الانتفاع بالأراضي لأنها تختلف من ميناء لميناء آخر".
كما يشير إلى تفوق الأجانب في الخبرة الفنية والملاءة المالية التي تمتلكها الشركات الكبرى، وهي عناصر مهمة في مشروعات تنفيذ البنية الفوقية التي تمول بالعملة الصعبة.
ويقول المصدر بهيئة ميناء الإسكندرية إن الهيئة حاولت إسناد مشروع محطة الركاب بميناء الدخيلة لشركات مصرية و"تم طرحها أكثر من مرة على شركات محلية، لكن لم يتقدم لها أي كيان مناسب من حيث الملاءة الفنية والمالية".
ويشير المصدر إلى تجربة أخرى في مناقصة محطة الصب الجاف النظيف، المطروحة حاليًا أمام القطاع الخاص لتولي إدارتها وتشغيلها لفترة 30 عامًا، قائلًا "الشركات المحلية التي دخلت المناقصة قليلة، وعند التقييم الفعلي للمتنافسين وفقًا للاشتراطات المطلوبة سيتم استبعاد 80% منهم لعدم توافر المعايير اللازمة بها".
ويشير المصدر إلى أن أبرز مطالب الشركات المصرية تتعارض مع تطلعات وزارة النقل في الوقت الحالي لجمع إيرادات دولارية "المطالب تركزت في مطالبة الميناء بمحاسبة الشركة الفائزة بالجنيه المصري لحركة التداول بدلًا من الدولار، مع مطالبة الهيئة بتنفيذ البنية الفوقية لصعوبة توفير سيولة دولارية من البنوك المحلية".
على الرغم من التفوق الأجنبي في مجال خدمات المواني، يرى طه أن تجربة المجموعة المصرية للمحطات متعددة الأغراض في إنشاء محطة تحيا مصر بميناء الإسكندرية، قد تكون بداية لتكوين خبرة مصرية في هذا المجال، مع تكرار دخولها في هذه المشروعات.