يعد توماس فريدمان أحد أهم كتاب الرأي في صحيفة نيويورك تايمز، ذات التأثير الواسع في النخب الأمريكية التي توصف بالليبرالية والتقدمية، ولكن دائمًا ما تزداد أهميته وتأثيره أثناء حكم الإدارات الديمقراطية، لعلاقاته الشخصية القوية مع الرئيسين السابقين بيل كلينتون وباراك أوباما، والحالي جو بايدن.
كما تكتسب مقالاته عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أهمية لذاتها، بحكم أنه يهودي أمريكي، وسبق له العمل مراسلًا صحفيًا في العديد من الدول العربية، وقضى في لبنان عشر سنوات أثناء الحرب الأهلية بين 1979 و1989 عندما أصدر كتابه الشهير من بيروت إلى القدس.
وبالمعايير الأمريكية، حيث انحياز المؤسسة الحاكمة الأعمى لصالح إسرائيل، يُعدُّ فريدمان صحفيًا "تقدميًا"، وكان له دور مهم في تحوِّل فهم النخبة الأمريكية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والنظر إليه بشكل أكثر واقعية.
وعلى طريقة "وشهد شاهد من أهلها"، تعاملنا كمؤيدين عرب للقضية الفلسطينية مع "من بيروت إلى القدس"، باعتباره دليل إدانة يؤكد ارتكاب إسرائيل الفظائع التي ارتكبتها مع غزو لبنان عام 1982، وما لحقه من مجازر شهيرة بحق الشعب الفلسطيني خاصة في صبرا وشاتيلا. كما قدّم الكتاب وجهة النظر الفلسطينية للرأي العام الأمريكي الذي لم يكن معتادًا على ذلك النوع من الكتابات التي تُبدي تعاطفًا مع الفلسطينيين.
تقدمية تتلاشى على أعتاب إسرائيل
ورغم العداء الذي تُكنُّه أوساط اليمين الأمريكي المتطرف لفريدمان، ووصفه بـ"اليهودي الكاره لنفسه" ، فإن مواقفه تجاه دولة الاحتلال تبقى في إطار ما يمكن وصفه بـ"انتقادات المحب" المؤمن بجوهر الفكرة الصهيونية المتمثلة في حق اليهود في إقامة دولتهم القومية على أرض فلسطين، وهو ما تبدّى بوضوح في مقاله الذي حمل عنوان "إسرائيل: من حرب الأيام الستة إلى حرب الجبهات الستة".
مشاعر السيد فريدمان كانت مثل "المشاعر الرسمية" للغرب
تلاشت "تقدمية" فريدمان المفترضة في مقاله الذي لم يتضمَّن أيَّ إدانة قاطعة ومتوقعة من أيَّ صاحب ضمير إنسانيٍّ حيٍّ، للجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين المدنيين العزل في قطاع غزة، وقتل الآلاف منهم بدم بارد على مدار الساعة منذ 24 يومًا، وما تزال أجساد المئات تحت ركام البنايات والمنازل المدمرة، في ظل غياب المعدات.
كما لم يطالب الكاتب الأمريكي الشهير صراحة بالوقف الفوري لتلك الحرب الهمجية التي كشفت بوضوح مدى عنصرية حكومات غربية، على رأسها الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، ممن رفعوا الشعار الكاذب المجحف "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، حتى لو كانت ترجمة ذلك السماح بقتل أطفال مثل شام، ابنة مراسل الجزيرة وائل الدحدوح و"آخر العنقود"، أو محمود ابنه البالغ من العمر 17 سنة، أو حفيده الرضيع الذي لم يتجاوز عمره 45 يومًا.
مشاعر السيد فريدمان كانت مثل "المشاعر الرسمية" للغرب؛ لا يحركها مقتل أكثر من 3000 طفل فلسطيني، ولا إجبار 1.5 مليون إنسان على النزوح من منازلهم التي ستدمرها قنابل الاحتلال أمريكية الصنع. كلُّ ما يرونه فقط هجوم حماس في 7 أكتوبر، الذي قتل أكثر من 1400 إسرائيلي، بينهم مدنيون، ولكن كذلك المئات من جنود وضباط الاحتلال.
نعم لا يمكن الترحيب بقتل أيِّ "مدنيين" أو أطفال من أيِّ جنس أو دين، ولكنَّ التعامي عن أن ذلك لم يحدث فراغ، بل في أعقاب عقود من الاحتلال العنصري الذي يقتل الآلاف من الأطفال والنساء الفلسطينيين، كما أشار الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو جوتيريش، هو الفساد الأخلاقي بعينه.
الجبهات الستة التي قال فريدمان إن إسرائيل تخوض حروبًا فيها هي جبهة غزة، والجبهة الإقليمية ضد إيران وأذرعها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وجبهة الضفة الغربية حيث يُقتل العشرات بيد قوات الاحتلال والمستوطنين، والجبهة الداخلية المنقسمة، وأخيرًا جبهتي السوشيال ميديا والرأي العام العالمي، وما وصفه بـ"الصراع الثقافي والفلسفي بين الحركة التقدمية العالمية وإسرائيل".
وفي النقطة الأخيرة تحديدًا، يلقي السيد فريدمان برداء التقدمية بعيدًا، ليكشف عن عقيدة صهيونية متمثلة في الإيمان بمعجزة وحلم دولة إسرائيل.
حلُّ الدولتين لا يكفي
انتقد فريدمان المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين التي اجتاحت الجامعات الأمريكية بعد أن "حمَّلت إسرائيل مسؤولية الغزو البربري الذي قامت به حماس، قائلين إن حماس تخوض 'حربًا ضد الاستعمار'. هؤلاء المتظاهرون التقدميون يؤمنون أن كلَّ إسرائيل هي مشروع استعماري، وليس فقط مستوطنات الضفة الغربية، ولذلك فإنَّ الشعب اليهودي لا يمتلك الحق في تقرير المصير أو في الدفاع عن النفس في أرض أجدادهم، سواء كانت في حدود ما بعد أو ما قبل 1967. ومحاولة تلخيص هذا الصراع المعقد بين شعبين يتحاربان للسيطرة على الأرض باعتباره حربًا ضد الاستعمار يمثل تزييفًا ثقافيًّا".
تقدمية فريدمان سقطت أمام حبه لمشروع إسرائيل
ورغم عدم وجود أي وجه للمقارنة، تساءَل الكاتب عن أسباب عدم تنظيم هؤلاء الطلبة أي احتجاجات ضد إيران التي تضطهد النساء وتقتلهم وتتحكم عمليًا في أربع دول عربية! نعم النظام الحاكم في إيران ديكتاتوري دون أدنى شك، ولكننا لم نشهد في العالم جيشًا يقتل المدنيين بشكل منهجي دون رحمة مع تصريحات علنية لقياداته بأنهم يحاربون "حيوانات بشرية"، مع غطاء أمريكي وصل إلى تحميل شعب غزة مسؤولية ما يُرتكب بحقهم من جرائم لأنهم انتخبوا حركة حماس ويدعمونها، وكأن حفيد الدحدوح وابنته مسؤولان عن نتائج انتخابات جرت قبل مولدهما.
وبينما أصيب فريدمان بالاستياء لأن أغلب المؤثرين على السوشيال ميديا، التي وفرت للجميع حول العالم معلومات يتعمد الإعلام الغربي السائد إخفاءها على طريقة أعتى الديكتاتوريات، تبنوا الرواية الفلسطينية بتحميل إسرائيل مسؤولية قصف المستشفى الأهلي المعمداني "دون تحقق"، لم يبرر لنا الصحفي المخضرم سبب تصديقه للرواية الإسرائيلية، التي زعمت أن ما أصاب المستشفى إطلاق صاروخي فاشل لجماعة الجهاد، وكذبها لتحقيق مفصل نشرته الصحيفة نفسها في اليوم السابق لنشر المقال.
تقدمية فريدمان سقطت أمام حبه لمشروع إسرائيل، ولم يكن ينقصه في مقاله الأخير سوى أن يكرر الروايات الكاذبة بشأن إنشاء حماس أنفاقًا أسفل المستشفيات واتخاذها مقارًا للقيادة، لتبرير استهدافها وهي مكتظة بالمرضى والنازحين.
لا يكفي وسط حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل الآن في غزة أن يؤكد السيد فريدمان أنه ما يزال يؤمن بحلِّ الدولتين، ويعده المخرج اللازم لإنقاذ إسرائيل ككيان "صهيوني ديمقراطي" على حد زعمه. فلو أكمل جيش العدو مهمته في قتل الفلسطينيين بالمعدلات التي نراها على مدى الأسابيع الماضية، وأصرَّ على تنفيذ مخططه القديم بتهجير سكان القطاع إلى شمال سيناء، لن يكون هناك أي مجال للحديث عن دولتين أو ثلاثة، بل عودة لحرب مفتوحة بين الكيان الصهيوني وكل جيرانه العرب.