برخصة المشاع الإبداعي: Taymaz Valley، فليكر
احتجاجات داعمة للمتظاهرين في إيران ضد الحجاب، 2022

إيران.. والمشانق إذا تحدثت

منشور الأحد 18 ديسمبر 2022 - آخر تحديث الأحد 18 ديسمبر 2022

بينما تقرأون هذه السطور، فإن ضحية جديدة تنتظرها المشنقة في إيران. الرابر الشاب سامان ياسين المحكوم بالإعدام، جرى نقله قبل أيام من سجن إيفين إلى سجن رجائي شهر، ما عدته منظمة العفو الدولية تمهيدًا لتنفيذ الحكم الصادر ضده، بعد اتهامه بإطلاق رصاصات "في الهواء" خلال الاحتجاجات على قتل الشابة مهسا أميني.

لو جرى شنق الرابر ياسين، سيصبح ضحايا تهمة الإفساد في الأرض بإيران ثلاثة محتجين شباب خلال أقل من أسبوعين. ففي صباح يوم الاثنين الماضي شنقَت السلطات على الملأ الشاب مجيد رضا رهنورد، بعد محاكمة استغرقت أيامًا قليلة، لم يحصل خلالها على محام، اتهم فيها بقتل عنصرين من الباسيج (قوات شعبية شبه عسكرية تتكون من متطوعين من المدنيين). وسبق رهنورد إلى المشنقة الشاب محسن شكاري الذي شنقته السلطات يوم الأربعاء 7 ديسمبر/ كانون الأول، بعد محاكمة صورية أيضًا اتهمته بطعن رجل أمن.

تكلمت المشانق إذن، وصمتت الاحتجاجات في الشوارع وفق ما نعرفه، وهو قليل. فلا أحد يستطيع أن يعرف أخبارًا دقيقة عن الوضع في إيران إلا من خلال ما تعلنه السلطات التي تٌسيج البلاد بحوائط مطلية بالأسود، أو ما يتسرب عبر النشطاء إلى وسائل الإعلام في الخارج، وهو نادر مؤخرًا، وأحيانًا ما يفتقر إلى الصحة.

أخبار الإعدامات التي أعلنتها السلطات القضائية عبر موقعها الرسمي ميزان، جاءت بعد مناورة لطالما تميز بها أبناء وأحفاد الخوميني، الذي راوغ منذ عودته إلى طهران في فبراير/ شباط 1979 عقب رحيل الشاه محمد رضا بهلوي، كل القوى والمجموعات السياسية يسارها ويمينها. ثم نحرهم جميعًا وانفرد بكل شيء في الدولة مع أصحاب العمامات السوداء حتى هذه اللحظة.

مناورة السُلطة تمثلت في إعلانها الغامض عن إلغاء شرطة الأخلاق، و"النظر" في أمر الحجاب الإلزامي، لتنهي بهاتين الجملتين المواربتين الاحتجاجات التي بدأت في 16 سبتمبر/ أيلول الماضي، عقب الإعلان عن وفاة الشابة مهسا أميني إثر اعتقالها بسبب "حجابها السيئ"، لتندلع انتفاضة عارمة خلعت خلالها آلاف من النساء حجابهن احتجاجًا كما أظهرت الصور والفيديوهات المسربة، بل حرقنه ثم أحرقن مع المتظاهرين الرجال منزلًا عاش فيه الخميني من قبل.

وبلغت الانتفاضة أوجها بما يشبه الإضراب العام حد أن أوقفت الدراسة في مدارس وجامعات داخل المناطق الملتهبة، وأعلنت حالة الاستنفار العام داخل الجيش، مع عدم قدرة الشرطة وحدها على قمع المتظاهرين في عديد من الأحياء والمناطق السكنية.

الأنظمة القمعية على شراستها تتمتع بالتفاهة كذلك

فتيات "انقلاب"

الاحتجاجات التي فجرتها وفاة أميني، ليست إلا واحدة من الموجات القوية ضمن تيار هادر لرفض الحجاب الإلزامي بدأت منذ فرضه عام 1979 بالتزامن مع يوم المرأة العالمي. تراجعت السلطات حينها، قبل أن تبادر بهجمة قوية وتفرضه إلزاميًا بداية من عام 1983.

بلغت هذه الحركة الرافضة المتواصلة لسنوات ذروتها في ديسمبر 2017 حينما سُجل مقطع فيديو لشابة تدعى فيدا موحد، واقفة فوق صندوق كهرباء في شارع الثورة (انقلاب)، وأقدمت على خلع حجابها ورفعه على عصا، ثم ما لبثت أن اختفت حتى تم اكتشاف أنها قيد الاعتقال، وبعد تحركات حقوقية أفرج عنها مؤقتًا بكفالة، ثم صدر حكم بحبسها لعدة أشهر.

لكن في يناير/ كانون الثاني 2018 أقدمت نساء أخريات على الوقوف على صندوق الكهرباء نفسه وفعلن الشيء ذاته، خلع حجابهن ورفعه على عصا، وتواصلت الوقفات لنحو أربعة أشهر، وانضم إلى النساء النشطاء الرجال، ومرة بعد أخرى كانت الشرطة أقسى في تعاملها مع المحتجات والعقوبات أشد، ثم وضعت السلطات مثلثًا حديديًا يشبه الهرم، فوق صندوق الكهرباء للحيلولة دون وقوف أحد فوقه. الأنظمة القمعية على شراستها تتمتع بالتفاهة كذلك.

لكن، هل من أجل إلغاء الحجاب يواجه الشباب والشابات في إيران المشانق؟

لا يمكن الإجابة عن السؤال بنعم أو لا فقط، ذلك أن الحجاب الإلزامي قضية شديدة التعقيد، وهو راية نظام الفقيه وعلامة حضوره على أجساد النساء في إيران. كذلك هو متغير في شكله وفي التعامل معه حسب الصراعات الداخلية في دواليب السلطة، وحسب العلاقة بين الفقيه والرئيس وحكومته. متغير حسب الأوضاع الاقتصادية، وفي حضور الصراعات الخارجية بين السلطة والقوى الدولية.

في دراسة بعنوان الحجاب في إيران بين ثنائية الأيديولوجيا والسياسة، صدرت عن المعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة) وأعدها محمد السيد الصياد وربى البلوى، يرصد الباحثان حجم التجاذبات بين الفقيه والسياسي داخل إيران في أمر الحجاب الإلزامي، وتعدد التفسيرات بشأنه، ومواقيت التسامح مع شكله ومقاييسه والتشدد في أوصافه، كذلك شدة العقوبات بشأن غير الملتزمات به.

فالعقوبة المنصوص عليها في قوانين الحجاب تتدرج بين التوبيخ والغرامة والسجن لأسبوعين، لكن إذا ما وجهت تهمة الحض على البغاء تتغير العقوبة إلى السجن لما يصل إلى عشر سنوات. الأمر متغير وكله بيد السلطات.

يجادل الإسلاميون العرب من أنصار النظام الإيراني والحجاب الإلزامي بالطبع، حتى من غير الجمهور الشيعي، بأن ارتداء النساء الإيرانيات للشادور ومن ثم الحجاب جاء برغبتهن، باعتباره فعلًا ثوريًا على نظام الشاه بعد أن فرض الشاه رضا بهلوي عام 1936 قانونًا يمنع ارتداء الحجاب والشادور ضمن ما عرف بـ"كشف الحجاب" للحاق بمواكب الغرب، وأجبرت الشرطة النساء على إزالة الحجاب وأغلقت محلات الشادور ومُنعت كل الملابس التقليدية للرجال أيضًا.

ومع وصول ابنه محمد رضا بهلوي إلى الحكم أوقف تلك الإجراءات، ومن ثم فإن ارتداء الملابس ذات الطابع الإسلامي كان من علامات تأييد الثورة على نظام الشاه، وليس أمرًا مفروضًا كما يقولون.

وفي الواقع، فإن فرض الحجاب والشادور بالقوة وسن القوانين المتصلة بذلك بداية من عام 1981 هو معكوس الإلغاء القمعي للحجاب والشادور، والفرق بين السلطتين؛ سلطة الشاه وولاية الفقيه، لا يتعدى تفاصيل المنع أو الإجبار.

ففي معركة الرفض لقانون "كشف الحجاب" ناضل مع رموز الشيعة في رفض القانون قادةُ اليسار الستاليني باعتبار الشاه متأمركًا يريد إثارة إعجاب الإمبريالية. وهاجم الفصيل نفسه المجموعات اليسارية التروتسكية الذين أطلق عليهم البعض بعد الثورة اسم العائدون من الدول الأجنبية، كناية عن التأثر بالثقافة الغربية. وشنَّعوا عليهم بسبب الاختلاط، وما سمُّوه بـ"عرض أجساد النساء"، قبل أن يطيح الخوميني بالكل، ويبيدهم جماعيًا.

دراسة الصياد والبلوى تؤكد أن "مسألة الحجاب ليست في يد رئيس الجمهورية، بل في يد المرشد الأعلى والنًّخبة الدينية. بالتالي فليس بمقدور "الإصلاحيين" أو "المعتدلين" إنفاذ وعودهم التي يجزمون بها إبان حملاتهم الانتخابية، في هذه المسـألة. ولذا فإنّنا نجد تدخُّلات من الحرس الثوري نفسه لضبط الشارع في كثير من المراحل، ولهذا دلالات ثقافية وأيديولوجية عميقة. وبسبب هذا يحذِّر الإصلاحيون وبعض المحسوبين على النظام من ردود الفعل العكسية، ومن تضخُّم دوائر التمرُّد والمعارضة بسبب تعاطي الأجهزة الأمنية مع مسألة الحجاب. وطالبوا بالاكتفاء بأحكام القضاء فقط، دون تعامُل العناصر الأمنية مع النساء في الشوارع، والأقسام الشرطية، التي غالبًا ما تشمل الضرب والإهانة".

ويشير ذلك أيضًا إلى أن الحجاب هو المساحة المتروكة لرجال الأمن في الشوارع، تأكيدًا لهيبتهم وسطوتهم وحفاظهم على النظام، من خلال التحكم في أجساد النساء دون غيرهن. ذلك أنه ووفق الدراسة نفسها "بعض التصريحات التي يطلقها قادة الأجهزة الأمنية تدُلّ على مدى أهمِّية تلك المسألة، أيديولوجيًا وسياسيًا، في العقل الأمني. فعلى سبيل المثال، صرَّح قائد القوات الأمنية في قُم، قائلًا إنّ العفَّة والحجاب إحدى هواجس المرشد ومراجع التقليد، والأئمة، والشعب المتديِّن. وهناك 26 جهازًا يلعبون دورًا في موضوع الحجاب والعفاف، الجانب الأكبر منها له دور ثقافي، والجزء الأصغر منه تنفيذي، وهو الذي تتولّاه القوّات الأمنية الإيرانية".

مسألة الحجاب إذًا بالنسبة للقوّات الأمنية مسألة محورية، وتدخُل في صلب دوائر عملهم. بل إنّها، وفقًا لتعبير أحد هؤلاء القادة الأمنيين، "خطّ أحمر للقوّات الأمنية". الوقوف على مثل تلك التصريحات مهمّ جدًّا لفهم فلسفة تعامُلهم مع المرأة في التظاهُرات ضدّ الحجاب أو حتّى في المعتقلات. إذ ترى العناصر الأمنية أنّ ذلك الفعل ضدّ المحجبات عملًا دينيًا وأخلاقيًا، يُتعبَّد به إلى الله، فثمَّة غطاء فقهي وديني يحمي تلك الأفعال من المساءلة أو من الشعور بالذنب أخلاقيًا، حد رؤية الدراسة.

إذًا، القضية بالنسبة للشعب الإيراني ليست الحجاب في ذاته، بل كل ما يمثله. والاحتجاجات ضد الإلزام به، احتجاجات ضد ولاية الفقيه والواجهة السياسية له. ضد الشرطة والكيانات الأمنية التي توازيها؛ معركة من أجل التحرر الكامل تبدأ من الحجاب وتستمر ولو واجهت المشانق.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.