معقدٌ للغاية هو النظام السياسي الإيراني الذي رسخته الثورة الإسلامية بعد إطاحتها حكم الشاه القوي المدعوم من الولايات المتحدة. لكن وبغض النظر عن العديد من الهيئات والمجالس المعينة والمنتخبة التي تحمل مختلف المُسمّيات من "مجلس الخبراء" إلى "مجلس صيانة الدستور" و"مجلس تشخيص مصلحة النظام"، والبرلمان والرئاسة، فإن الآمر الناهي يبقى المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي، الذي يمزج السلطتين الروحية بالدينية بموجب نظرية ولاية الفقيه التي فُرضت في إيران.
بالتالي، طالما بقي خامنئي البالغ من العمر 85 عامًا في منصبه الذي تولاه عام 1989 بعد وفاة المرشد الأول آية الله الخميني، فلا شيء يتغير في إيران، وسيبقى هو الرئيس فوق كل "رئيسي"، حيث يشبه منصب الرئيس هناك منصب رئيس الوزراء في بقية الدول الرئاسية، ويبقى شاغله خاضعًا كالمؤسسات الأخرى لسلطة المرشد.
أما الإجراءات الأخرى مثل انتخابات الرئاسة والبرلمان فتبقى مجرد تفاصيل، خاصة في ضوء الصلاحيات المطلقة لـ مجلس صيانة الدستور، من بينها إقرار قائمة المرشحين المسموح لهم بخوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والموافقة على التشريعات التي تصدرها الحكومة والبرلمان واعتبار ذلك "المجلس" سلطةً تعلو أي سلطة منتخبة، بعد أن يُعيّن المرشد والبرلمان مناصفةً أعضاءه الاثني عشر.
ومن هذا الإدراك، يمكننا استبعاد أن يكون لحادث سقوط الطائرة الهليكوبتر التي كانت تحمل الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان وعددًا من كبار المسؤولين في 19 مايو/آيار، أثر كبير في توجهات طهران أو طريقة صنع القرار.
ولكنَّ الحادث المريب، مثل معظم حوادث الطائرات التي تودي بحياة مسؤولين كبار في الدول الشمولية، أربك بلا شك النظام الإيراني في مرحلة شديدة الاضطراب والحساسية في المنطقة عمومًا، وبالنسبة لإيران على وجه الخصوص.
أسئلة معلقة
لا تصدق الشعوب عمومًا أن الرؤساء وكبار المسؤولين وقادة الجيوش يمكن أن يموتوا في حوادث طائرات طبيعية، ومن الصعب أن يقتنعوا بأنَّ السبب بالفعل يمكن أن يكون خطأً تقنيًا أو بسبب تقلبات جوية مفاجئة، خاصة في ظل نظم تقوم أساسًا على قمع حرية تداول المعلومات وبث روايات رسمية تفتقر إلى الحقيقة الكاملة وغياب نظام حقيقي للمحاسبة والمساءلة. وحتى في الدول الأكثر تقدمًا؛ لا يزال الأمريكيون حتى الآن يناقشون اغتيال الرئيس الشاب جون كينيدي مطلع الستينيات.
لذلك، عندما يكون الضحية رئيس إيران الذي تخوض بلاده مواجهات متعددة على جبهات مختلفة وتعادي الولايات المتحدة وإسرائيل، وتُتهم بالتحرك على أربع جبهات بشكل متزامن في لبنان وسوريا والعراق واليمن، تحت عنوان دعم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في مواجهة العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ ثمانية شهور، تتزايد الأسئلة وتبقى معلقةً بلا إجابات.
كما أنَّ الحادث المفجع جاء بعد أسابيع قليلة فقط من أول مواجهة علنية مباشرة بالصواريخ بين إيران واسرائيل، وهو ما طرح الكثير من التساؤلات المشروعة بشأن ما إذا كانت تلك الحادثة استمرارًا لمسلسل الانتقام الإسرائيلي من تجرؤ طهران على كسر أحد المحرمات للمرة الأولى في تاريخ الدولة اليهودية، عندما وجّهت مئات الصواريخ الباليستية والمسيرات المفخخة نحو المدن الإسرائيلية ردًا على استهداف قنصليتها في دمشق، وإن لم تحقق أضرارًا فادحةً.
الطبيعة الشمولية للنظام الإيراني هي ما تزيد من التكهنات ونظريات المؤامرة خاصة مع بطء رد الفعل
ولكنَّ إسرائيل ومعها الولايات المتحدة، اللتين تهتف الجماهير الإيرانية ضدهما أسبوعيًا وتدعو بزوالهما، سارعتا بالنفي القاطع بتورط أيٍّ منهما في حادث الهليكوبتر أمريكية الصنع التي كان يستقلها رئيسي. بل إن واشنطن كشفت لاحقًا أنَّ إيران طلبت منها المساعدة للعثور على حطام الطائرة، ولكن ذلك لم يكن ممكنًا لأسباب لوجستية، على حد تعبير المسؤولين الأمريكيين.
وتدرك الولايات المتحدة ومعها إسرائيل أنَّ اللجوء لاغتيال الرئيس الإيراني سيُعد تصعيدًا خطيرًا وتحولًا لا ترغبان فيه، مهما بلغت درجة العداء بين الطرفين.
واستبعاد التورط الخارجي هو ما يدفع تكهنات أن يكون الحادث مؤامرة داخلية بهدف التخلص من رئيسي، وعدم تمكينه من تولي منصب المرشد الأعلى الذي كان مرشحًا له. وأسباب التكهن عديدة، على رأسها نجاة الطائرتين المرافقتين لطائرة الرئيس وعدم توقفهما لإنقاذه بعد فقدان الاتصال مع الطائرة المنكوبة.
كما أنَّ استخدام الرئيس الإيراني الراحل وكبار المسؤولين المرافقين له طائرة متهالكة يزيد عمرها عن أربعين عامًا في حد ذاته يثير الكثير من التساؤلات، خاصة أنه ورغم كل المشاكل التي تواجه قطاع الطيران في إيران بسبب العقوبات الأمريكية، تمتلك طهران طائرات أفضل حالًا.
ويبقى التساؤل الأهم حول سبب موافقة قادة الطائرات على الإقلاع في ظل ظروف جوية قالت السلطات الإيرانية إنها كانت سيئةً وضبابيةً، بينما كانت تقتضي أقل إجراءات التأمين تأجيل الإقلاع حتى تتحسن الظروف الجوية.
تنمو المؤامرة في ظل القمع
المؤكد أنَّ الطبيعة الشمولية والقمعية للنظام الإيراني هي ما تزيد من التكهنات ونظريات المؤامرة، خاصة مع بطء رد الفعل والساعات الطويلة التي مضت حتى تم العثور على الطائرة، والسعي الحثيث فور الإعلان عن اختفاء الرئيس ووزير الخارجية إلى التقليل من شأن الحادث، والتدرج في تقديم الأخبار السيئة للجمهور.
يرجح تقرير في نيويورك تايمز أنَّ النظام الإيراني كان يعلم بوفاة رئيسي ومرافقيه بعد وقت قصير من وقوع الحادث، لكنه كان بحاجة لبعض الوقت للسيطرة على الوضع الداخلي أولًا ونشر قوات الشرطة في الشوارع ضمانًا لعدم وقوع اضطرابات.
وكانت السلطات الإيرانية، وفقًا للتقرير، تخشى أي مظاهر احتفالية برحيل رئيسي الذي يحمّله الكثير من الإيرانيين المعارضين مسؤولية قمع المظاهرات الشعبية الواسعة التي تلت مقتل الفتاة الإيرانية مهسا أميني قبل نحو عامين.
ومن المعروف أن الرئيس الراحل كان ينتمي لجناح المتشددين الذي يرفضه الكثير من الإيرانيين الذين عبروا عن ذلك بمقاطعة واسعة للانتخابات البرلمانية الأخيرة في مطلع شهر مارس/آذار حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة 48%.
سيُنتخب رئيس إيراني جديد سريعًا، حتى لو بقيت بعض التساؤلات حول درجة تسامح المرشد الأعلى والمؤسسة الدينية المحافظة مع ترشح إحدى الشخصيات الموصوفة بالمعتدلة في مواجهة مرشح محافظ كما كان حال "رئيسي". وإن كانت أغلب التوقعات تفيد بأنَّ الرئيس القادم سيكون محافظًا كسابقه، في ضوء تصاعد وتجذر نفوذ المحافظين.
ولكن ما لن يختفي أو ينتهي بكل تأكيد حديث المؤامرة بشأن حادثة سقوط الرئيس الإيراني الراحل ومرافقيه، كما هو الحال في كل الأنظمة القمعية الشبيهة بالنظام الإيراني.