إيران يا مصر زينا
كان عندهم ما عندنا
الدم هو دمنا
والهم من لون همنا
مطلع قصيدة للشاعر أحمد فؤاد نجم، غناها الشيخ إمام عام 1979 احتفاء بالثورة الإيرانية التي أنهت حكم الشاه الذي اتسم بالفساد والظلم لعقود. لم يقتصر الاحتفاء على مثقفي مصر من مختلف التيارات حينها بنجاح الثورة، بل امتدت آثارها الى العالم العربي كله وألهمت العديد من الحركات الثورية حول العالم.
شاركت في الثورة الإيرانية كل فئات المجتمع من اليسار والليبراليين والمحافظين، بالإضافة طبعًا إلى التيارات الإسلامية التي، ومع عودة الخميني من منفاه في فرنسا، أعلنوها "ثورةً إسلاميةً" ليستمر حكمهم ما يزيد عن أربعين عامًا إلى يومنا هذا. جاء نجاح الثورة الإيرانية وسط سلسلة من الهزائم والانكسارات السياسية والعسكرية في العالم العربي كان أبرزها هزيمة 67 الموجعة.
في وسط ظروف الهزيمة تلك، تحمس الكثير من الشباب العربي من المثقفين والفاعلين السياسيين للثورة الإيرانية، وتماهوا مع مطالبها وأدبياتها، وحتى طرق التحضير لها في فترة ما قبل رحيل الشاه: العمل السري، وطباعة المنشورات وتوزيعها، وتنظيم الخلايا، استحداث آليات تواصل تحميهم من عسس الشرطة والملاحقة، وصولًا للخروج في مظاهرات تذهب بعض الوثائق إلى أنها كانت الأكبر في التاريخ الحديث.
وكأن الثورة الإيرانية كانت بمثابة تعويض عن انكسار المشروع العربي الذي كان ينشد التغيير والتحرر من عدو كان حينها واضح المعالم، الاحتلال الإسرائيلي.
حماسة الشباب العربي للثورة الإيرانية، لا سيما في الأوساط اليسارية، وصلت لدرجة أنه أطلق عليهم اسم "الخمينيين الماركسيين"، وكانوا الطريق الذي عبرت منه أفكار تلك الثورة إلى المجتمعات العربية.
بدأت الثورة في إيران ضد الظلم والفساد، وانتهت بترسيخ وصول الإسلام السياسي إلى الحكم في المنطقة للمرة الأولى. كما أسست لتحالف اليسار والإسلاميين، الذي ما زال حتى اليوم يأخذ أشكالًا مختلفةً، منطلقًا من شعارات مشتركة لمحاربة الأنظمة الجائرة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وكما في الكثير الثورات، تبدأ بالنوايا الحسنة ولكنها تصل إلى مشهد يكرس ظلمًا أشدَّ وفسادًا أخطر مما كانت عليه البلاد قبل الثورة، قرر الخميني القضاء على كل من ساعدوه في الإطاحة بنظام الشاه، من التيارات غير الإسلامية، والقضاء عليهم بالسجن والقتل والنفي.
لم يكن للإسلام الشيعي مشروع سياسي واضح قبل الثورة الإيرانية، ولم يؤسس قبلها لأيديولوجيا سياسية تعبر عنه. فكان نجاح الثورة فاتحةً لطموح فئة مجتمعية عانت من التهميش طويلًا، كونها أقليةً في محيط سنّي، وأيقظت احتمالية الممكن وفرص تحقيقه.
ظهر بعدها في مطلع الثمانينيات تنظيم حزبي في لبنان أطلَق على نفسه أسم "حزب الله"، متبنيًا خط الخميني السياسي، وساعيًا منذ تأسيسيه لإقامة حكم سياسي شيعي آخر في المنطقة يتبع منهج "ولاية الفقيه"، على خُطى الحكم الوليد حينها في إيران، ليتوسع نفوذه عبر السنين إلى بقية البلدان العربية من خلال مؤيديه بين أبناء الطائفة الشيعية.
لكنَّ حزب الله لم يقدم نفسه في بدايات ظهوره كحزب يمتلك خطابًا سياسيًا يتوجه به إلى الداخل اللبناني، أو إلى المحيط العربي، بل كان إعلانه عن نفسه في البداية كحركة مقاومة مسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، تتبنى مشروع تحرير الأرض العربية من الاحتلال وصولًا إلى القدس.
في مقابل ذلك الإعلان حصد الحزب الناشئ تأييدًا شعبيًا واسعًا داخل لبنان وفي المنطقة العربية، بغض النظر عن الانتماء المذهبي المغاير للمنطقة. وكانت "ورقة المقاومة" بمثابة صك غفران عن كل التجاوزات المجتمعية التي رافقت مسيرته، وعن انفراده بالقرار السياسي، وفرضه سياسة الأمر الواقع، التي كانت جزءًا أساسيًا فيما وصل إليه لبنان اليوم.
نشأ الحزب في أوساط أبناء الطبقة الشيعية النازحين من قرى الجنوب والبقاع إلى عشوائيات، أُسست كيفما اتفق، على أطراف العاصمة بيروت وضواحيها، ومازال بعضها قائمًا لليوم. أبناء مزارعي التبغ الذين ضاقت بهم قراهم ولفظتهم إلى خارجها.
وتَذكر العديد من الأبحاث والدراسات والكتابات دور تلك الفئة المجتمعية الناشئة، التي سعت إلى تحسين ظروفها الاجتماعية من خلال تعليم أبنائها واعطائهم فرصةً للارتقاء المجتمعي، فكان لا يخلو بيت شيعي من أبناء يتابعون دراستهم، بينما تعمل العائلة كلها على تمويل عملية التعليم الشاقة تلك، ويمكن العودة لكتابات الأساتذة أحمد بيضون، ووضاح شرارة، الذين وثَّقوا في كتاباتهم لذاك الحراك الاجتماعي.
تحول أبناء تلك الطائفة من فئة واعدة بما يمكن أن تقدمه لمجتمعها إلى كتلة مغلقة على نفسها طاردة لكل مختلف عنها بالإكراه والاستبعاد
بموازاة ذلك، بدأت الحركة الشيعية السياسية فرض نفوذها على أبناء تلك الفئة، مرة بشعارات رد المظلومية التاريخية الواقعة عليهم كأقلية في المنطقة العربية، وأغلبية مذهبية في لبنان، حيث تشير بعض الاحصاءات القديمة إلى أن الشيعة يشكلون 34% من تشكيلة الطوائف في لبنان، ومرة بلعب دور "البوليس الاجتماعي"، مستهدفةً الحلقة الأضعف في المجتمع لتمارس عليه ذلك الدور؛ النساء.
كنت في الثامنة أو التاسعة من عمري حينما بدأت الأخبار تنتشر عن رمي "مية النار" على وجوه النساء غير المحجبات في مناطق النفوذ الشيعي، وعن ملاحقة المثقفين واستهدافهم، وصولًا إلى الاغتيالات التي حصدت أرواح عشرات المثقفين الشيعة، وغيرهم ممن عارضوا نهج حزب الله ومرشده الإيراني الأعلى. ولا يسعني هذا المقال لذكرهم جميعًا بدءًا من حسين مروة سنة 87، وصولًا إلى اغتيال لقمان سليم بخمس رصاصات في فبراير/ شباط من العام الماضي.
لم يكن حجاب المرأة الشيعية في لبنان سوى غطاء تقليدي للرأس تميزت به بنات الريف، يُظهِر مقدمة الشعر وأطرافه، وغالبًا ما كان يتهادى على أكتاف من تلبسه دون إحكامه حول الرأس. ولكن مع استمرار ادعاء حزب الله "للانتصارات الإلهية"، وإحكام قبضته المجتمعية على مناطق نفوذه بفرض قوة السلاح والترهيب تارة، ومنح الامتيازات المادية والسياسية لأتباعه تارة أخرى، نجح الحزب في تأسيس ظهير مجتمعي يدين له بالولاء المذهبي والسياسي.
وتحول أبناء تلك الطائفة، من فئة ناشئة واعدة بما يمكن أن تقدمه لمجتمعها، إلى كتلة مغلقة على نفسها، طاردة لكل مختلف عنها بالإكراه والاستبعاد. ليظهر بعدها الشادور الأسود الذي يغطي المرأة من رأسها حتى أخمص قدميها. ويطغى انتشاره على هوية ثقافية محلية تماهت مع الوارد الثقافي الإيراني معبرًا عن نفسه بالتمايز عن محيطه بالشكل والمضمون.
لكنَّ "الحلقة الأضعف" اليوم لم تعد كذلك، وهي تتصدر انتفاضة شعبية في مهد نشأتها في إيران، رهان قد تكسبه المرأة الإيرانية وقد يكون له أثره القوي على المنطقة في مظاهره التي تتحدى نظام الملالي. نساء وفتيات تجرأن على المطالبة بالحرية، آزادي.
تنتشر صورهن اليوم يحرقن الحجابات في مظاهرات حاشدة تمتد على طول البلاد، ويتحدين سلطة المشايخ وسلطة المرشد الأعلى مباشرة، ويسقطن في سبيل استرجاع الحرية المصادرة. ربما لن يكتب لهذه الانتفاضة أن تكتمل وتحقق أهدافها في ظل القمع والقتل الذي تمارسه السلطات. ولكنها بلا شك، تضاف إلى سجل النضال التراكمي لهذا الشعب على مدى عقود.
وربما سنكرر قصيدة نجم مرة أخرى، ولكن هذه المرة للأسباب الصحيحة، مستفدين من سجل هزائمنا وأخطائنا القريبة في الذاكرة. وأن يكون الهدف الأكبر هذه المرة إنصاف الإنسان، وتحقيق العدالة ونيل الحرية. أن نصدق فعلًا حدسنا في عدم الانجرار إلى ألعاب الآخرين، وألا نكون جسرًا تعبر عليه قوى الظلام إلى سدة الحكم. ولنا في التجربتين اللبنانية والمصرية عبرة.
تحية للمرأة الإيرانية التي كشفت هشاشة عظام النظام الحديدي، وتحية لكل من أحيا آمال التغيير مرة أخرى، وسلامًا على أرواح من رحلوا كي نحيا ونحلم بغد أفضل.