تصوير: سالم الريس
ركام برج فلسطين المكون من 14 طابقًا بعد أن سوته الطائرات الحربية بالأرض وسط مدينة غزة، أكتوبر 2023

خيارات محدودة لإسرائيل وعنصرية فاضحة للغرب

منشور الثلاثاء 10 أكتوبر 2023

لأن الحدث غير مسبوق في فداحة خسائره واتساع معاركه ودرجة إذلاله لدولة الاحتلال الإسرائيلي، لا يملك أحد حتى الآن قدرة التنبؤ برد فعل تل أبيب تجاه قطاع غزة والفلسطينيين عمومًا، بعد المعارك التي بدأتها حركة حماس فجر السبت برًا وجوًا وبحرًا.

اعتاد العالم واعتدنا نحن العرب أن نضع أيدينا على قلوبنا في انتظار الرد الإسرائيلي القاسي والوحشي، كلما سقط ثلاثة أو أربعة قتلى إسرائيليين في عملية فدائية فلسطينية، أو انطلقت قذائف المقاومة العمياء على المستعمرات القريبة من القطاع لتصيب سكانها بـ"الفزع"، وتضطرهم للاختباء في ملاجئ مكيفة ومجهزة.

ساعات وتنطلق آلات القتل الإسرائيلي المتنوعة لتدك المباني فوق رؤوس من فيها، ويصبح المدنيون من سكان غزة الذين يتجاوز عددهم المليونين محبوسين داخل مساحة لا تتجاوز 40 كيلومتر مربع، أهدافًا مشروعة للقتل، أطفالًا ورجالًا ونساءً، من دون ملاجئ ولا مخابئ. حتى مدارس الأمم المتحدة لا تمثل مخابئ آمنة 100%.

كم مرة قامت إسرائيل بشن حروب طويلة وقصيرة ضد سكان غزة منذ خروج قواتها من هناك في 2005، فقتلت منهم المئات وأصابت الآلاف؟ غالبًا لن تتذكر، لأن الحدث بات يتكرر كمصمصة الشفاه لدرجة الشعور بالعجز لمنع ما يتعرض له الفلسطينيون من جرائم.

هذه المرة، في هجوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول، فاقت الخسائر الإسرائيلية ما قد يسقط بين دولتين في حرب مباشرة. ما يقترب من 800 قتيل وأكثر من 2500 مصاب والعدد مرشّح للزيادة، في معارك استخدمت فيها المقاومة أساليب بسيطة، وطائرات مسيرة، ومقاتلين تمتلئ قلوبهم بالإصرار والرغبة في الانتقام من إذلال يومي يذوقونه، إلى جانب العشرات من الأسرى الإسرائيليين الذين اقتيدوا إلى قطاع غزة، ليشكلوا الورقة الأهم حتى الآن في وضع حد لوحشية رد الفعل الإسرائيلي.

لا تُثير رغبة نتنياهو بتهجير الفلسطينيين وآثارها على مصر والدول المجاورة قلقًا للغرب المتحضر

العنصرية التي تتعامل بها دولة الاحتلال مع الفلسطينيين مقننة وظاهرة ولا تحتاج إلى براهين؛ قوانين منفصلة للتعامل مع الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال، حرمان من تملك الأراضي أو المنازل، حواجز عسكرية مدججة بالسلاح ومعابر يتعمد فيها جنود الاحتلال صغار السن إذلال الفلسطينيين وإهانتهم، وهم يحاولون التحرك داخل أراضيهم، أو يسعون وراء لقمة عيش صعبة، كعمال البناء، في المستعمرات غير الشرعية، على أراضيهم التي حرموا منها.

مأزق الطفلة المدللة

كانت فلسطين دائمًا الدليل الأكثر وضوحًا بالنسبة لي على عنصرية الولايات المتحدة والدول الأوروبية تجاه العرب. يُسمح لإسرائيل، الطفلة المدللة، بخرق كل القوانين، ويُمنع المجتمع الدولي من إدانة تصرفاتها، في ظل حماية الفيتو الأمريكي.

بينما إسرائيل تحتل وتقتل وتُدمِّر، وتتجاهل كل القوانين والمعاهدات الدولية، يرفع هذا العالم الغربي المتطور لواء الدفاع عنها. يصطنع البلاهة ولا تتحرك مشاعره عندما يرى المباني المدمرة في غزة أو القتلى من الأطفال والأبرياء الفلسطينيين، ويثور ويغضب ويهدد عندما يسقط الإسرائيليين قتلى أو حتى يصابون بالفزع.

هذا العالم المتحضر كله أصدر بيانات إدانة حماس، وقتل "المدنيين" الإسرائيليين، ووحشية الفلسطينيين بعد انتشار صور لاحتجاز مستوطنين بينهم أطفال، ولمقاوم ملثم يرفع علامة النصر بجوار عجوز إسرائيلية، ولامرأة شبه عارية مقتولة على متن عربة بصحبة مسلحين فلسطينيين، ومجندة أُسرت من أحد المعابر التي اجتاحها المقاومون.

هذه وحشية، ولكن سقوط ما يفوق 300 مدني فلسطيني خلال أقل من 24 ساعة، بعد تدمير المباني بمن فيها من أطفال ونساء ورجال فوق رؤوسهم معلم من معالم الإنسانية المطلقة والتحضر البشري.

تنشر بعض الصحف الغربية على استحياء صورًا لأطفال فلسطينيين يركضون فزعًا هاربين من غارة إسرائيلية أو صاروخ، ولكن من فرط اعتياد قتل الأطفال الفلسطينيين لم يعد ذلك أمرًا يستوجب سوى أكثر من إطلاق نداءات ضبط النفس وتجنب التصعيد.

رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي اختار تشكيل أكثر الحكومات تطرفًا وعنصرية وإرهابًا في تاريخ الكيان الصهيوني، يخرج في تصريحات علنية مطالبًا الفلسطينيين بمغادرة أرضهم والهروب من منازلهم، لأن العقاب على هجوم حماس سيكون قاسيًا بشكل يفوق أي حروب سابقة.

هذه التصريحات، التي تقول إننا بصدد حملة تهجير جديدة للفلسطينيين، تشبه ما حدث في سنوات النكبة و1967، وستكون لها آثار على الدول المجاورة وعلى رأسها مصر، لا تشكِّل أي قلق للدول الغربية المتحضرة.

ولكنَّ أحد الدروس المستفادة من العملية المذهلة الموسعة التي قامت بها حركة حماس، أن الخيارات أمام إسرائيل محدودة، خاصة أنها لا تخوض حربًا في مواجهة جيش نظامي.

لم يعد مسموحًا تكرار المزاعم الأمريكية والإسرائيلية بأن التطبيع هو الحل

تدرك أجهزة استخبارات الكيان الصهيوني جيدًا أنه إذا كانت حماس رغم إمكانياتها المحدودة ومعاناتها من ضغوط ورقابة جيش الاحتلال اللصيقة، تمكنت من القيام بهذه العملية الجريئة، فإن ما ينتظرها على الجبهتين اللبنانية والسورية سيكون أكثر قسوة، لو قرر حزب الله وحليفته إيران فتح جبهة جديدة لتخفيف الضغط على الفلسطينيين، وللثأر مما يتعرضون له من أعمال قتل ستستمر لفترة قد تطول، بعد أن أعلن نتنياهو رسميًا حالة الحرب.

قواعد اللعبة تتغير

لم تعد الحروب تقليدية؛ تمكّن فلسطينيون على متن دراجات وموتسيكلات من اختراق السياج الحديدي، الذي يفصل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية.

لن تتعامل القبة الحديدية مع الفلسطيني المربوط ببارشوت على أنه قذيفة أو صاروخ، حتى لو أقنع نتنياهو وزارة الدفاع الأمريكية بمنحه مليارات الدولارات بزعم تطوير قدرات منظومته المتطورة، تمامًا كما فشلت أنظمة دفاع باتريوت الأمريكية في السعودية والإمارات من منع طائرات الحوثيين المسيرة، التي أطلقت من اليمن، وأدت لوقف معظم إنتاج النفط السعودي عام 2020، واستهدفت مطار أبو ظبي.

ورغم خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن الصادم في عنصريته، بإعلان التضامن الكامل مع إسرائيل متجاهلًا الضحايا الفلسطينيين، فإن نتنياهو يدرك أن حليفه الرئيسي لا يمتلك الإمكانيات والقدرة على دعم حرب موسعة جديدة في الشرق الأوسط؛ وهو يدعم حربًا ضروسًا أخرى في أوكرانيا.

كما أن الحماس الأمريكي عمومًا لخوض حروب خارجية في تراجع، وكذلك الدعم المطلق الأعمى لإسرائيل؛ في ضوء التوجه المتطرف للحكومة اليمينية الحالية، وسعيها لتمرير الإصلاحات القضائية التي ترفضها معظم المنظمات اليهودية الأمريكية الليبرالية، وكذلك الحزب الديمقراطي الذي ينتمي له بايدن. ومن المؤكد أن آخر ما يحتاجه بايدن حربًا ساخنة في الشرق الأوسط تقفز بأسعار النفط المرتفعة بالفعل قبل شهور من انطلاق حملته الانتخابية للفوز بفترة ثانية.

يتهم المحللون الأمريكيون والإسرائيليون إيران بدعم حماس في هجومها الموسع الأخير، من أجل إفشال جهود إدارة بايدن للتوصل إلى اتفاق تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. ولكن المؤكد أن قواعد اللعبة تغيرت بالفعل، ولم تعد تسمح بتكرار المزاعم الإسرائيلية والأمريكية بأن اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية، بما في ذلك دولة بثقل السعودية، يمكن وحدها حل القضية الفلسطينية دون الالتفات لجوهرها؛ حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وإنهاء الاحتلال العنصري البغيض الذي يفضح يوميًا مصداقية الدول الغربية، التي لا ترى الفلسطينيين بشرًا لهم نفس الحقوق.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.