لو ثبتت صحة الاتهامات الجنائية، التي يُحاكَم عليها الآن السيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز وزوجته نادين أرسلانيان وشريكهما المصري/الأمريكي وائل حنا، ستصبح هذه القضية ثاني أكبر عمليات الاختراق الاستراتيجي المصري داخل الولايات المتحدة ومؤسساتها الدفاعية ثم التشريعية.
ومثلما أتابع حاليًا كصحفي من واشنطن محاكمة ما يمكن تسميته بقضية "الذهب الأصفر"، إشارة إلى اتهامات ينفيها السيناتور الأمريكي وزوجته بتلقي سبائك ذهبية ونقود وهدايا كرشىً لمجاملة الحكومة المصرية، تابعت بالمثل وعن كثب قبل 35 سنة عملية اختراق مصرية أكبر بكثير، أُطلق عليها اسم "عملية الكربون الأسود"، واكتُشِفت عام 1988 مع إحباط محاولة تهريب الدفعة الثانية من أجهزة دفع صاروخي ومواد كربونية معالجة، من أسرار الصناعة الأمريكية، إلى مصر، لاستخدامها في تغليف مقدمة الصواريخ الباليستية لتطويل مداها وتوجيهها، في مشروع طموح لتطوير الصواريخ في شراكة ثلاثية بين مصر والأرجنتين والعراق.
لكن معايير الحكم على جدوى تلك العمليات ومدى فائدتها لمصالح الأمن القومي، مقابل مخاطر تداعياتها السلبية على العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، لايمكن عزلها عن بُعدين؛ الأول هو الأهداف المرجوة في الحالتين لصالح الدولة وقوتها العسكرية أو الاقتصادية ومكانتها الإقليمية، مع الأخذ في الاعتبار إن كانت المغامرة تستحق المخاطرة.
كان اسم جاري العقيد من بين أسماء أربعة مصريين يتعثر مذيعو النشرات الأمريكية في نطقها، وهم يقرأون لائحة الاتهام
أما الثاني فمصلحة المواطن؛ اللبنة الأساسية في بناء هذه الدولة، وماذا سيعود عليه من عمليات خارجية قد تصل إلى الحرب، سواء بحجة حمايته من الإرهاب، كما ادّعت أمريكا في حربيها بعد أحداث سبتمبر/أيلول، أو لضمان احتياجاته اليومية مثل الوقود ومشتقات البترول بسعر "معقول" يُحدده القوي، عملًا بالمثل المصري "العفي محدش يقدر ياكل لقمته"!
ألواح الكربون الأسود
صباح أحد أيام يونيو/حزيران (التعيس) 1988، تلقيت وأنا في عملي بإذاعة صوت أمريكا مكالمة شبه استغاثة، من زوجة جاري السابق في القاهرة حين كنت طالبًا بالجامعة، تبلغني بأنهم عائدون جميعًا بأطفالهم على عجل لمصر، لأمر طارئ، ولن يتمكنوا حتى من رؤيتي قبل سفرهم، لأسباب لا يمكن إبلاغي بها هاتفيًا.
في اليوم التالي، كان اسم جاري ورتبته "عقيد طيار"؛ من بين الأسماء الأربعة المصرية التي بدأ يتعثر مذيعو النشرات الإخبارية الأمريكية في نطقها، وهم يقرأون لائحة اتهام باثنتي عشرة جناية؛ بتهريب ونقل تكنولوجيا عسكرية عالية السرية والحساسية إلى بلد أجنبي، دون ترخيص، ودفع رشىً بأكثر من مليون دولار لعالم أمريكي مصري الأصل ومعه شريكه الأمريكي.
تبين لي لاحقًا أن جاري السابق، العقيد محمد، استخدم مع مديره العسكري في واشنطن حصانتهما الدبلوماسية وعادا إلى مصر، بينما أُلقي القبض على الاثنين الأمريكيين؛ عبد القادر حلمي وشريكه جيمس هوفمان.
بقبوله عرض النيابة أن يتجنب السجن المؤبد بالتعاون مع المحققين، لم يقض عبد القادر، البالغ من العمر وقتها 41 سنة، سوى ثلاث سنوات وعشرة أشهر في السجن. كما صودرت منه 840 ألف دولار قيل إنها ما تبقى من تحويلات الحكومة المصرية له عبر حساب مصرفي بسويسرا.
يُفترض أن المشروع الصاروخيّ المشترك توقف بتدخل الأمريكيين، وانتهت الشراكة مع الأرجنتين والعراق، لكن بعد حصول مصر على مواد وتكنولوجيا مكَّنتها من تطوير، ولو محدود مقارنة بالتطلعات السابقة، لصواريخ سكود، التي ربما حاول العراق بدوره تطويرها أو استخدامها، مع وجود مساعدة تقنية من كوريا الشمالية.
على الجانب السلبي، أصرت إدارة الرئيس جورج بوش الأب، الذي حدثت العملية حين كان نائبًا للرئيس ريجان، أن تُعاقب مصر المسؤول العسكري الأول عن المشروع، وبعد قبول حجة عدم علم الرئيس مبارك به، عُزِل المشير عبد الحليم أبو غزالة من منصب وزير الدفاع في أبريل/نيسان 1989، أي في غضون ثلاثة أشهر من تولي بوش الأب الرئاسة بعد ريجان.
سبائك الذهب الأصفر
تابعنا تغطية المنصة لتفاصيل الاتهامات الموجهة لمينينديز رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، وسبائك الذهب متنوعة الأوزان التي صودرت بعد مداهمة منزله، ومئات آلاف الدولارات المخفية في حِزمٍ بغرفة نومه، يقول إنها من مدخراته وليست رشوة.
كما نقلت في مقال سابق، قبل أكثر من ثلاثة أشهر على توجيه الاتهام الرسمي، تفاصيل تحقيقات المباحث الفيدرالية مع وائل حنا، بشأن مصادر كل تلك الأموال والهدايا والتعويضات المالية لزوجة السيناتور، نادين أرسلانيان، الأمريكية لبنانية المولد أرمنية الأصل.
ويتهم المحققون السيد حنا باحتكار إصدار تراخيص "حلال" لكل واردات مصر من اللحوم والدواجن، لاستخدام أرباحها التي تضاعفت، في تمويل مساعي المخابرات المصرية للتأثير على أحد زعماء الكونجرس لعدم حجب أي مبلغ من المعونة السنوية الأمريكية، وغض النظر عن انتقادات واشنطن لتردّي أوضاع حقوق الإنسان في مصر. ودلل الادعاء في اتهاماته بحصول السيناتور على سبائك الذهب بوزن كيلوجرام، ضُبطت بحوزته، جاءته من مصر، بدعوى أنه عقب عودته وزوجته من رحلة للقاهرة عام 2021، أدخل سؤالًا على موقع جوجل يستفسر عن سعر كيلو الذهب!
يُحاول الادعاء الأمريكي أن يربط أيضًا بين السيناتور ومسؤولين بالمخابرات المصرية، دون ذكر أسماء في صحيفة الاتهام، مكتفيًا بتعريفهم برقم لكل مسؤول متهم وحجب وجوههم وذويهم في صور صحيفة الاتهام.
من غير المتوقع أن يطلب الأمريكيون عزل أحدٍ في مصر انتقامًا لاختراقهم المزعوم هذه المرة
إذا ثبتت التهم الأمريكية المعلنة للعالم، ومع غياب ردٍّ أو نفيٍ أو تعليق رسمي من مصر، فالهدف المطروح أمامنا الآن لا يمس الأمن القومي لأمريكا ولا أسرارها العسكرية، بل لا يتعدى الحصول على معلومات من السيناتور، ليست سرية ولكنها غير معلنة، عن عدد ونسبة المصريين والجنسيات غير الأمريكية في السفارة الأمريكية بالقاهرة، والأهم المساعدة في التغاضي عن تحفظات الكونجرس على معاملة الحكومة المصرية لمواطنيها.
يدين مصر ليبرِّئ نفسه
في دفاعه عن نفسه وسجله وبراءته، تحدث السيناتور مينينديز للصحافة قبل يومين من مثوله أمام المحكمة وأكد براءته. ثم ذكّر بقائمة انتقاداته ضد الحكومة المصرية، مدللًا بها على عدم انصياعه لمطالبها.
أكد أمام كاميرات العالم رفضه المتكرر لما يحدث في مصر من انتهاكات حقوق الإنسان، وسجن الحقوقيين وأصحاب الرأي، وعدم استقلال القضاء، وتأييده لتقارير عن عمليات تزوير ومخالفات في انتخابات الرئاسة عام 2018.
استرسل السيد مينينديز بشكل يسيء لصورة حكومة، لا يمكن أن تكون أهداف عملية اختراقها، أن تطلب إطلاق يدها في قمع مواطنيها، لا تحسين ظروفهم أو تقوية دفاعات بلدهم. ناهيك عن ضآلة المبالغ المحتجزة وعن فداحة الاتهام، بأنه حتى وزارة الزراعة الأمريكية هي المنزعجة من غلاء أسعار اللحوم على المستهلك المصري لاحتكار شهادة حلال!
بالطبع، سيقارن البعض بين هدف الاختراقات والتهديدات العسكرية الأمريكية للدول البترولية بتخفيض أسعارها لصالح مواطنيها الأمريكيين، والحالة المصرية في واردات اللحوم، لو صدقت الرواية الرسمية الأمريكية!
شتان بين الكربون والذهب
من غير المتوقع أن يطلب الأمريكيون عزل أحدٍ في مصر انتقامًا منه لاختراقهم المزعوم هذه المرة. فعلى عكس أزمة تهريب الكربون الأسود، لا تمس القضية الحالية الأمن القومي الأمريكي أو أسراره الحقيقية بضرر، وبالتالي لم يوجه أي اتهام لأي مسؤول أو عسكري مصري خلافًا للحالة السابقة. أما أن تُترك حكومة أجنبية لتفعل بمواطنيها ما تشاء، فهو ما فعلته سابقًا إدارة الجمهوري دونالد ترامب لأربع سنوات.
ولا بأس من أجل مصالح أمريكا الاستراتيجية الأهم أن تواصل إدارة الديمقراطي بايدن والكونجرس تقديم المعونة، المبنية منذ عقود على صلح كامب ديفيد لمصلحة إسرائيل، ولو "بشيك على بياض"، وغضَّ الطرف عما تفعله مصر بمواطنيها، طالما ليسوا مواطنيه، عملًا بالمثل الفلسطيني القائل عمن لا يعنيك شأنهم؛ "فخّار يكسّر بعضه"!