قبل ساعات من رفع جلساته وتعليق أعماله مؤقتًا لحين "انتهاء الاستحقاق الرئاسي"، أصدر مجلس أمناء الحوار الوطني بيانًا يتضمن عددًا من "المبادئ الضرورية" لإدارة انتخابات رئاسية "تعددية وتنافسية؛ تمهيدًا لما سيأتي بعدها من مراحل، استكمالًا لمسار التحول الديمقراطي في مصر".
بيان المجلس الذي استخدم تعبير "مبادئ ضرورية" بدلًا من "ضمانات النزاهة"، كما دعت القوى السياسية المدنية، صدر مُوجَّهًا إلى "الرأي العام والقوى والسياسية"، وليس لمؤسسات وأجهزة الدولة التنفيذية التي تملك تحويل تلك "المبادئ" أو "الضمانات" أيًا كان مُسمَّاها إلى إجراءات فعلية.
اتخاذ هذه الإجراءات من شأنه رفع منسوب الثقة في الاستحقاق المرتقب؛ سواء لدى المرشحين أو الناخبين، الذين عادة ما تساورهم الشكوك في نزاهة معظم الاستحقاقات التي تجرى في بر مصر، من المحليات إلى الرئاسة، ولهم الحق؛ إذ أن لبلادنا السبق في تطوير أدوات إخراج انتخابات نتائجها تناسب مقاس السلطة الحاكمة.
اشتمل البيان على عدد من البنود اللافتة، التي لو كنا أمام مشهد طبيعي ومؤسسات قانعة بحدود أدوارها الدستورية، وراغبة في تنفيذ تلك البنود، لاطمئن جمهور الناخبين إلى أن تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع في مصر صار ممكنًا، بعد عقود من تناقلها داخل مؤسسة الحكم التي تعمدت تهميش أي دور للمحكومين، الذين هم وفق كل اعتبار أصحاب السيادة الأصليين.
ما جاء في بيان مجلس الأمناء اقترب كثيرًا مما تضمنته "وثيقة مبادئ إدارة الانتخابات الرئاسية" التي قدمها الكاتب الصحفي عبد العظيم حماد، رئيس مجلس أمناء الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، لمجلس أمناء الحوار، في اجتماعٍ مطلع سبتمبر/أيلول الجاري، مع تعديلات طفيفة "في مجملها تعبر عن تطلعات الحزب ورغبته في توفير ضمانات محددة، على رأسها الحبس الاحتياطي، والالتزام بالقائمة النسبية، وضمان حيدة الأجهزة الإدارية في الانتخابات"، حسب رئيس الحزب فريد زهران.
في المؤتمر ذاته، الذي عقد لتحديد موقف الحزب من تقديم مرشح للمنافسة في الاستحقاق الرئاسي، طالب زهران السلطات المعنية، وعلى رأسها رئيس الجمهورية والهيئة الوطنية للانتخابات، بالاستجابة لما جاء في وثيقة المبادئ، والإعلان عن إجراءات وقرارات محددة تضعها موضع التنفيذ.
وإلى جانب الدعوة لاستكمال الجهود التي بذلت في سبيل مراجعة أوضاع المسجونين والمحبوسين احتياطيًا، والممنوعين من السفر، وتعديل أحكام الحبس الاحتياطي، وضرورة دعم حرية عمل الأحزاب السياسية وحرية حركتها، وتعديل قوانين الانتخابات لضمان تمثيل عادل لكافة فئات المجتمع، كان من اللافت أن يُشير البيان إلى أن دعم الحياة السياسية في البلاد يتطلب "مزيدًا من دعم حرية الصحف ووسائل الإعلام"، وكأن حرية الصحافة هذه متاحة، لكنها تحتاج إلى مزيد من الدعم.
من النقاط اللافتة التي أشار إليها البيان أيضًا، دعوة أجهزة ومؤسسات الدولة أن تكون على مسافة واحدة من جميع المترشحين لمنصب رئيس الجمهورية "بشكل يضمن الحقوق الدستورية والقانونية لهم والفرص المتكافئة"، والتأكيد على حق المرشح في "حرية الحركة والسعي لجمع التأييدات والاتصال بالناخبين والتغطية الإعلامية بشكل متكافئ".
من قرر أن يكون جزءًا من "الاتصالات والاتفاقات" سينحاز لزهران، فيما ستدعم بعض الأحزاب الطنطاوي
بواقعية ودون أي ميل للتشاؤم، لا يتوقع أي سياسي عاقل أن تتبنى أجهزة ومؤسسات الدولة ما جاء في هذا البيان، الذي تتعارض كل الدلائل على الأرض مع ما جاء فيه من مطالب. فالأجهزة وكل ما يدور في فلكها من كيانات تمهّد منذ أسابيع لإعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي قراره بالترشح لفترة ولاية ثالثة؛ لافتات التأييد ملأت الشوراع والميادين بالمدن والقرى والنجوع، قبل حتى أن تُعلن الهيئة العليا للانتخابات الجدول الزمني لإجرائها.
أما عن وسائل الإعلام من محطات وصحف ومواقع، فلا حديث لها سوى عن إنجازات الرئيس في السنوات الماضية، ومشروعاته التي ساعدت على استقرار البلاد وتحسن أحوال العباد. وعلى هامش حديث الإنجازات سُمح بمساحة لمنافسيه الذين جرى استدعاؤهم لاستكمال المشهد، في ظل غياب تام لأي مرشح محتمل جاد يسعى لتقديم نفسه كبديل حقيقي؛ ينتقد الأوضاع القائمة ويرصد مثالب الفترة الماضية. ما ينبئ بأن منصات الإعلام ستكون مقصورة خلال فترة الدعاية الانتخابية على الرئيس ورجاله "المكلفين" بمنافسته لإكمال المشهد.
حتى كتابة تلك السطور، تحاول أحزاب المعارضة المنضوية تحت مظلة الحركة المدنية الديمقراطية التوافق على مرشح لدعمه في المعركة الرئاسية، وذلك بعد أن قرر الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي ترشيح رئيسه فريد زهران للانتخابات في خطوة لم تفاجئ أحدًا؛ فالقرار حُسم منذ فترة، وما جرى قبيل انتخابات البرلمان الأخيرة من اتصالات انتهت بتوافق على دخول "الديمقراطي الاجتماعي" ضمن تحالف "مستقبل وطن" باتفاق مُحدد المعالم؛ أسفر عن وصول عدد من قيادات الحزب إلى غرفتي البرلمان، تم استئنافها، أي الاتصالات، وانتهت بوعود متبادلة حتى تخرج كل الأطراف بمكاسب ترضيها وتناسب حجمها.
ليس من المتوقع أن تتفق أحزاب الحركة المدنية على مرشح؛ فالجميع يعلم تفاصيل ما جرى خلال الفترة الماضية، ومن قرر أن يكون جزءًا من "الاتصالات والاتفاقات" سينحاز إلى زهران كي "ينوبه من الحب جانب"، فيما ستراهن بعض أحزاب الحركة على دعم المرشح أحمد الطنطاوي، المغضوب عليه من السلطة ومعظم أطراف المعارضة.
مشهد الانتخابات الرئاسية المنتظر قد يبدو نظريًا مختلفًا عن مشهد انتخابات 2018، الذي اقتصر على الرئيس السيسي ومؤيده/منافسه موسى مصطفى موسى، رئيس حزب الغد.
ففي الانتخابات المرتقبة سيفتح الباب أمام مرشحين مؤيدين للرئيس؛ كرئيس حزب الوفد عبد السند يمامة، ورئيس حزب الشعب الجمهوري حازم عمر، وآخرين معارضين كرئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وقد تلحقه رئيسة حزب الدستور جميلة إسماعيل، وسيسمح في تلك المعركة وفق ما هو متوقع بنقد "خفيف" لبعض السياسات والقرارات التي اتخذها الرئيس المرشح خلال فترتيه، مع هجوم عنيف على المرشح المعارض أحمد الطنطاوي، إذا عبر بالطبع بوابة "التوكيلات".
هندسة الاستحقاقات الانتخابية في مصر ثقافة متجذرة داخل أجهزة ومؤسسات الدولة، يحتاج التخلص منها إلى تراكم وعي وإيمان بأنَّ اللحاق بالمستقبل لن يكون إلا ببناء دولة ديمقراطية، وتلك الدولة لن تُرفَعَ قواعدُها إلا بعلاج أمراض الدولة القائمة؛ وعلى رأسها التشبث بالسلطة والتمسك بالمنصب.
مسار التحول الديمقراطي في مصر لايزال أمامه مشوار طويل.