نشرت مدى مصر قبل أسابيع بودكاست مع المرشح الشاب المحتمل للرئاسة أحمد الطنطاوي، كانت ردوده فيه واضحة ومتماسكة في مجملها؛ مؤكدًا على مبدأ دولة المؤسسات كنموذج نقيض لدولة الرئيس/الفرعون الذي سيحقق، أو لا يحقق، كل شيء أو لا شيء، بإرادته كفرد. حضر في ذهني لحظتها حمدين صباحي، القيادي الناصري ومؤسس حزب الكرامة، الذي انتمى إليه الطنطاوي، ورأسه لفترة قبل استقالته، متخيلًا طريقته في الرد على نفس الأسئلة.
تخيُّل ردود حمدين صباحي لم يشمل مضامينها التفصيلية، بل وقف عند قشرة نغمة الحاكم الفرد، التي لازمته في مرَّتي ترشحه للرئاسة. هذه النغمة الموحية بأن رئيس الجمهورية قادر على كل شيء، تُسلم ضمنيًا وبحسن نية، بأن الدولة المصرية لا تدار سوى بفرعون. فينحصر طموحنا كمواطنين في أن يكون فرعونًا عادلًا وديمقراطيًا. وهو ما لا يتورط فيه أحمد الطنطاوي، برفضه لمبدأ الحاكم الفرد.
نسينا لقاء الابتسامات الشهير بين صباحي والرئيس السوري بعد حدوثه بأيام قليلة، بتأثير واقعة جديدة كان بطلها قيادة ناصرية أخرى؛ كمال أبو عيطة، الذي تقدم ببلاغ للنيابة ضد الناشر هشام قاسم، بناء على قوانين يفترض به رفضها لسماحها بالحبس في قضايا الرأي والنشر. لننقسم مجددًا بين من اختاروا الدفاع عن حق هشام قاسم في التعبير، ومن اتهموه بالتطبيع وهو محبوس ومضرب عن الطعام، وعلى رأسهم أبو عيطة، وبعض الناصريين، ومن نستطيع تسميتهم بتيار "رؤية العالم والتاريخ عبر خرم إبرة نظرية المؤامرة".
الناصريون المقصودون في هذا المقال؛ هم تحديدًا جيل القيادات الحالية لهذا التيار، صباحي وأبو عيطة وغيرهم، لا الأجيال التالية التي ربما تعجب بنموذج عبد الناصر، أو تشعر بالحنين لزمن لم تعشه لكنها تعلم أنه كان أفضل من الأزمان التالية، أو تتبنى أفكارًا هي خليط من القومية، والاشتراكية بملامحها العامة.
تبدو خطوتا صباحي وأبو عيطة، المعبرتان في أفضل تقدير عن قبولهما بالاستبداد، كإعلان صريح عن عودتهما وآخرين من التيه في صحراء التوجه الديمقراطي المبدئي، للأساس التاريخي الوحيد الذي يملكه التيار الناصري؛ مشروع مُجهض للتنمية المستقلة، ربما كان مناسبًا لزمنه في الخمسينيات، اعتمد على تأسيس دولة عسكرية واستبدادية، وبعض الخطابات الوطنية والقومية الوحدوية.
ما قبل التيه الناصري
رغم انهيار مشروع عبد الناصر مع هزيمة يونيو 1967، يتبلور التيار الناصري المعارض في السبعينيات والثمانينيات كردِّ فعل على سياسات السادات الأمريكية والإسرائيلية؛ وبسبب ظروف اللحظة السياسية وإلحاح القضية الوطنية. ويكتسب التيار وقتها طاقة الاستمرارية من النوستالجيا الوطنية والقومية. لكنه ومع تراجع هذه النوستالجيا بداية القرن الحالي، وبالذات مع اندلاع ثورة يناير، يدخل لما أسميته بالتيه الديمقراطي.
المطالب المجتمعية المعاصرة لم تعد حرب التحرير، والمقاومة، ومناطحة الغرب، مثلما كانت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. أمست القضايا الاجتماعية والاقتصادية وقضايا الحريات، ولا تزال، أساس النضالات المعارضة للسلطات الاستبدادية في المنطقة. ولأن قضايا الحريات تشغل الناس حقيقةً، تبناها الناصريون ولكن بعمومية تليق بعبد الناصر نفسه، دون ملامح تفصيلية تحدد نوع الديمقراطية والحريات التي يتحدث عنها رموز التيار.
كان للتيار الناصري ثلاثة أقدام للارتكاز، لم تبقَ منهم سوى الثالثة؛ الصراع العربي الإسرائيلي
تتساقط القشور مع الانحدار السريع الذي نعيشه السنوات الأخيرة، فتتبدى سطحية الخطابات، أو تتجذر، نتيجة لمستوى الاستبداد غير المسبوق للسلطة. فيحدث الانقسام الحتمي؛ من ناحية نجد أن أحمد الطنطاوي، بما يمثله من أجيال جديدة انتمت لهذا التيار، لا يقدم نفسه كناصري أو قومي، بل كسياسي صاحب تجربة ومشروع مغاير للسلطة الحالية، مكتسبًا مصداقيته من أدائه البرلماني السابق، متجنبًا الحديث عن تجربته في الحزب الذي أسسه حمدين صباحي وكمال أبو عيطة منتصف التسعينيات.
أما في الناحية الأخرى، نتابع خروج أجيال الناصريين الأقدم من التيه في صحراء خطابات ديمقراطية لا تنسجم مع تجربة عبد الناصر الذي يمنحهم الاسم والإلهام؛ كصاحب مشروع اتسم في جوهره بالاستبداد والفردانية. فالبديل عن هذا الخروج سيكون تجذير الخطاب الديمقراطي، بما يفرضه من تقديم نقد حقيقي لتجربة الزعيم ولنموذجه العسكري، ستصل غالبًا، إن كانت جادة، إلى نفيها، أو لتجاوز أغلب أسسها على أقل تقدير، وبالتالي لفقدانهم "يافطة الناصرية".
ولعدم إدراكهم أن حلم المخلِّص/الفارس الفرد انتهى مع لحظة انكسار عبد الناصر، ثم موته اللاحق، يجد الناصريون من الأجيال الأقدم في الواحة نفسها التي خرجوا منها، ملجأً ينقذهم من التيه في صحراء الديمقراطية وتأصيل مفاهيمها، فيصبحون جناحًا تابعًا لنوع محدد من السلطات السياسية في العالم العربي؛ الديكتاتوريات محترفة الطنطنة الوطنية، التي تُسمِّي نفسها أحيانًا "دول الممانعة"، وأحيانًا لا تكلف نفسها حتى عناء التسمية، مثل السلطة المصرية. هذا الجناح الذي ينتقد السلطة أحيانًا، يدعهما دائمًا.
التيه الناصري الوطني
كان للتيار الناصري ثلاثة أقدام ممكنة للارتكاز؛ أولها القضايا الاجتماعية والاقتصادية والنهضوية، وقد انكسرت القدم الناصرية في هذا المجال، ولم تترك سوى تصورات عامة لا تُناسب على الأغلب عالمنا الحالي. ثانيها المبدئية في قضايا الديمقراطية والحريات الفردية والجماعية، وليس للتيار تاريخيًا أي تراث في هذا المجال، ونرى رموزه ينتهكون أبسطها اليوم. فلم تبقَ سوى القدم الثالثة؛ الصراع العربي الإسرائيلي.
إن توقفنا عند هذا المرتكز الثالث سنجد أن الأمر لا يخلو من طرافة. فكمال أبو عيطة، والمدافعون عنه ضمنيًا، يتهمون هشام قاسم بالتطبيع، رغم أن البلاغ لا يتعلق بهذه المسألة بل بنشر ما يدعي أبو عيطة أنها أكاذيب تتعلق بشخصه. ولكن، لأننا ومع دخول كلمة التطبيع في الأزمة سنضطر لكره هشام قاسم، ولن نتضامن معه، باعتباره مُطبعًا ملعونًا، دون أن ننتبه إلى أنها ليست القضية أصلًا.
تعيدنا تهمة التطبيع لأحد الجوانب المظلمة من زمن عبد الناصر
تهمة التطبيع التي يستخدمها باستسهال بعض عناصر تياري الناصرية والمؤامراتية، تتبدى كوميديتها أكثر في هذه الحالة حين ننتبه لبديهية أن حجر الأساس في قضية التطبيع مع إسرائيل، على الجبهة المصرية، هو الاتفاقيات المبرمة بين مصر والعدو الإسرائيلي.
وهي قضية كبرى لم يتورط صباحي في إعلان ما سيفعله بخصوصها إن فاز برئاسة الجمهورية خلال حملتيه الرئاسيتين في 2012 و2014، مكتفيًا بكلام عام، واعيًا بأنها قضية أكبر منه، وأن التورط في نفس الخطاب الناصري التقليدي المختصر في شعارات "إلغاء اتفاقية الإذعان"، أو "لا صلح لا تفاوض لا اعتراف"، معناه فقدانه لقطاعات واسعة من مؤيديه المحتملين، وأن يتشكل فورًا حلف دولي وإقليمي واسع لإسقاطه ولو بالعنف.
أما كمال أبو عيطة فقد شغل منصب وزير في الحكومة المصرية "المطبعة"، كان من ضمن المسؤولين في حكومة لم تتوقف عن الاقتراب من إسرائيل. فهل يمكن أن نتخيله امتنع يومًا عن مصافحة زملائه في الحكومة الذين بحكم عملهم يجتمعون مع إسرائيليين؟! أو أنه قال لرئيس الجمهورية "سيدي الرئيس ألغِ معاهدة كامب ديفيد واقطع كل العلاقات مع إسرائيل"؟! بالطبع لا.
وكالعادة، بعض المفارقات الكوميدية لها جانبها المأسوي، ويتمثل هنا في ابتذال قضية الصراع العربي الإسرائيلي ومسألة التطبيع مع العدو، الذي لا تعتبره القوانين المصرية عدوًا، دون أن نناقشها جديًا، ونضع لها أسسًا جديدة تناسب عالمنا الحالي. أسس تضمن ألا ننتحر، وتضمن الموقف المبدئي من إسرائيل كعدو، وتخلق أفقًا واقعيًا لصالح الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، دون أي وصاية عليه، في مواجهة دولة الاستيطان العنصري. والأهم أن يكون كل ذلك موقفًا نابعًا من أغلبية المصريين، لا مِمَّن يتصورون أنهم يمثلونهم.
لا أعرف إن كان هشام قاسم مطبعًا أم لا. لكن استخدام هذه التهمة في هذا الوقت بالذات يُعيدنا لأحد الجوانب المظلمة من زمن عبد الناصر نفسه؛ حين كانت تهم الخيانة تُلقى باستسهال في وجوه الخصوم والمعارضين، ليتم اغتيالهم على الأقل معنويًا، وتوزع النياشين الوطنية باستخفاف، بناء على رغبة الزعيم وبعض القليلين المحيطين به، وبنفس المنهج الفردي الذي يقرر من هو الوطني ومن هو الخائن.
وبينما يشعر البعض بالنوستالجيا لزمن عبد الناصر لأنه كان وطنيًا، ولم يكن لصًا أو فاسدًا، نتغاضى عمدًا، أو جهلًا، عن سماحه للكثيرين من رجاله باللصوصية والفساد، لكسر عيونهم أمامه.