تصوير:رافي شاكر
صورة أرشيفية من مخبز

العقد الاجتماعي الجديد

منشور الأحد 16 أبريل 2023

ناقشت في المقال السابق معضلة الأمن الغذائي في مصر، وذكرت أن مع التحولات التي جرت في العقد الاجتماعي في مصر، تغير أيضًا شكل دعم الغذاء. استكمل الفكرة هنا من خلال شرح مفهوم العقد الاجتماعي ورصد مراحل تطوره تاريخيًا من الشكل الرعوي وصولًا إلى نموذج الحماية من أجل الاستقرار.

نشأت هذه التحولات وسط محاولات متكررة، وغير ناجحة، من الدولة لتطبيق النيوليبرالية. هذه المحاولات أثرت على الصعيد الاجتماعي وعلى منظومة الغذاء في مصر.

ما هو العقد الاجتماعي؟

إن العقد الاجتماعي مفهوم يوضح ماهية العلاقة بين الحكومات ومجتمعاتها من حيث الحقوق والواجبات. ويعضد شكله من شرعية الحكومة وثباتها، وبالتالي يخلق قدرًا من التوازن في العلاقة بين الدولة والمجتمع ويرسم سقف التوقعات الرابط بينهما، مما يجعل الاتجاه العام للقرارات السياسية للدولة أكثر استساغة وتوقعًا.

تتنوع أشكال العقد الاجتماعي في البلدان المختلفة ولكن يمكن اختصاره في ثلاثة أنواع: أولها به قدر كبير من الندية بين الدولة والمواطن، والذي تضمن فيه الدولة للمواطن حرية المشاركة في العملية السياسية وصناعة القرار. والثاني، هو الذي توفر فيه الدولة عددًا من المنافع الاقتصادية والاجتماعية مثل التعليم والإسكان والتوظيف وما إلى ذلك، في مقابل تخلي المواطن عن بعض من حقوقه السياسية. وأخيرًا، العقد الاجتماعي الذي بموجبه ينحصر دور الدولة في توفير الأمن والحماية.

الأمن الغذائي من صميم أمن الدولة

عادة ما يُعاد التفاوض بشأن شروط العقد الاجتماعي وتكييفها وتغييرها عبر الزمن، على سبيل المثال عندما تتغير القوة النسبية للأطراف المختلفة في هذا العقد، أو مع تغير الظروف المحيطة بتشكل العقد في الأساس.

يمكننا أن نرصد تغير شكل العقد الاجتماعي في مصر إذا ما تتبعنا مسار نظام "التموين ودعم الغذاء"، وما آل إليه عبر الحقب السياسية المتعاقبة. يعتبر الأمن الغذائي أولوية حيوية للمجتمع، فضلًا عن كونه أداة قوة مهمة للبقاء السياسي للنظام. بتعبير آخر فإن الأمن الغذائي من صميم أمن الدولة.

العقد الاجتماعي من ناصر إلى مبارك

على سبيل المثال، تأسست جمهورية مصر العربية مع بداية الحكم الناصري كدولة رعوية، أو في قول آخر دولة أبوية، مسؤولة عن رعاياها. من إرشادهم، عبر وزارة الإرشاد، إلى تشغيلهم، عبر وزارة القوى العاملة، وتوفير غذائهم، عبر وزارة التموين. وفي المقابل تم حل الأحزاب والنقابات وغلق المجال السياسي العام. وكانت فلسفة دعم الغذاء آنذاك منبثقة من حلم المساواة الذي كانت تنادي به الاشتراكية.

من أهم الدعائم التي تستند عليها الدولة الرعوية هو توفير الغذاء، وهذا يتطلب ريعًا مستدامًا، ليس بإمكان الدولة المصرية توفيره، ففي عهد جمال عبد الناصر كانت مصر تعتمد على مِنح القمح المقدمة من الولايات المتحدة والاتحاد السوڤيتي، وكان ذلك عاملًا رئيسيًا في ثبات الدور الرعوي للدولة.

السادات والنيوليبرالية

ولكن الوضع اختلف في عهد أنور السادات مع توقف المنح الروسية والأمريكية وتزايد حاجة البلاد لشراء القمح لسد حاجة الاستهلاك المحلي. وعلى الرغم من سعيه الحثيث لفتح السوق مع موجة الانفتاح، إلا إنه لم ينجح في تحويل سياسات الدولة الرعوية إلى النيوليبرالية، التي تستمد قوتها من سياسات السوق.

في جوهرها، تعتبر النيوليبرالية النمو الاقتصادي الوسيلة المثلى لتحقيق التقدم، والأسواق الحرة هي الطريق الأكثر كفاءة لاستغلال الموارد، مع التأكيد على تقليص تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، والتزامها بحرية التجارة ورأس المال.

كانت ثورة الخبز في 1977 إشارة واضحة من الشعب على سوء الإدارة

ولكن تطبيق مثل هذا الفكر يحتاج إلى توافر عدة مقومات أساسية تبدأ بالشفافية وتعظيم دور الكفاءة وقوة القانون في ضبط المعاملات، وأهمية كفاءة الجهاز البيروقراطي وصغر حجمه لترشيد الإنفاق، لتصبح الدولة بذلك دولة تنظيمية/regulatory state يعتمد دورها في الأساس على تنظيم العلاقات في البلاد.

والسبب في فشل السادات هو غياب تلك المقومات التي كان لا بد من توافرها لاستيعاب هذا التحول، ومنها قصور الجهاز البيروقراطي الذي تُرك ليتضخم ويتراخى بشكل أخلَّ بدوره وجعله عبئًا على الدولة، لا أداة إدارية بيدها. وكذلك غياب المجال العام الحر، فلم يكن الميراث السياسي يسمح بتعددية حزبية حقيقية أو نشاط نقابي حر. فكان المنتفعون من سياسات الانفتاح قِلّة متسلقة، وكانت ثورة الخبز في 1977 إشارة واضحة من الشعب على سوء الإدارة والأحوال.

مبارك وطريق اللا عودة

وانتهى الحال بالأوضاع إلى طريق اللا عودة مع الحكم المباركي، الذي جرَّف الدور الرعوي للدولة وفرَّغ العقد الاجتماعي من محتواه بشكل تدريجي خافت. على مدار سنوات حكم مبارك الطويلة، انخفض حجم الإنفاق على دعم الغذاء بمقدار 80% عما كان عليه في عهد السادات.

خلال حقبة مبارك، عملت الحكومات المتتالية على تقليص حجم دعم الغذاء وتقليل جودته والحد من تنوعه بشكل ممنهج ودوري، ودون إعلان لتجنب ثورة خبز ثانية، مما أدى إلى تدني الإنفاق على دعم الغذاء إلى أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1997، وكان أقصى ارتفاع له مع الأزمة المالية العالمية وأزمة الغذاء في 2007-2008 وصل إلى 2.1%.

كان تحوّل المشهد الزراعي في مصر شاهدًا على محاولات مبارك في تطبيق النيوليبرالية وتحوّل أولوياته الاقتصادية مع انصياعه لنصائح البنك الدولي لتعزيز نمو القطاع الخاص، إذ انعكست هذه النصائح على أنماط ملكية الأراضي في مصر وكيفية تخصيص الدولة للموارد العامة.

في هذا السياق، تغيرت الرؤية الزراعية في مصر ليتم التركيز على تصدير الموالح والفواكه بدلًا من سد حاجة السوق المحلية. وكان هذا التغير في توجه السياسات سببًا في سحق الملايين من صغار الفلاحين في التسعينيات مع قانون 96 الذي حرر سوق الأراضي بالكامل في عام 1992 لينتهي الأمر إلى توسيع رقعة احتكار كبار مالكي الأراضي وإفقار الفلاحين. وكانت لهذه الإصلاحات السياسية آثار سلبية شديدة على تنمية الريف والحد من الفقر.

وتبقى معضلة الحكم والشعب في مصر تدور في فلك نقطتين محوريتين: أولًا، فشل الدولة في إجراء إصلاح حقيقي للفساد المتفشي في الجهاز البيروقراطي للدولة خلال عهد مبارك، وقد فصّل هذه النقطة محلل الاقتصاد السياسي الراحل سامر سليمان في كتابه المهم النظام القوي والدولة الضعيفة. وثانيًا، هزال المجتمع المدني وعدم قدرة المجتمع على تنظيم نفسه، وهو ما يشير إليه محمد نعيم ببراعة في سلسلة مقالاته الأخيرة وخاصة مقالة رأس ميدوسا السيادية.

ظل البقاء السياسي هو الهدف الأوحد لجميع الأنظمة الحاكمة في مصر من عهد عبد الناصر وما تلاه. وواجهوا جميعًا إشكالية متناقضة تتمثل في الحاجة إلى توجيه التغير الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب وجود مجتمع مدني مزدهر ومؤسسات تكنوقراطية نشطة، ومن ناحية أخرى حاجتهم الملّحة لإحباط وإضعاف هذا النظام الاجتماعي للحفاظ على استقرار النظام السياسي.

العقد الاجتماعي الجديد

بعد ثورة 30 يونيو/حزيران تقرر رفع الدعم بشكل عام تدريجيًا. وهو ما مهد لخروج الدولة عن دورها الرعوي وأن تتخذ لنفسها دورًا تنظيميًا نيولبيراليًا يعتمد بشكل رئيسي على سياسات السوق، مع تأكيد دورها في حماية المجتمع المصري من التطرف والإرهاب وتحقيق الاستقرار.

وهكذا أصبحنا في طيِّ عقد اجتماعي جديد تكون فيه الدولة مسؤولة فقط عن الأفراد الأكثر احتياجًا للمساعدة مثل ذوي الإعاقة أو شديدي الفقر. تجلّى ذلك في تحوّل دعم الغذاء من سلع عينية إلى إعانة مادية محدودة مع طرح برامج التحويلات النقدية مثل تكافل وكرامة وحياة كريمة.

ومع تغيّر فلسفة الدعم، التي كانت مكونًا محوريًا لمنظومة الغذاء في مصر منذ الستينيات، تنسلخ الدولة من دورها في توفير الأمن الغذائي وتؤول هذه المسؤولية إلى المواطن الفرد، في سابقة شديدة الأهمية لإعادة صياغة الحد الفاصل بين دور الدولة ودور المواطن.

تغير نمط سلوك المواطن من منتفعًا بخدمة اجتماعية تحميه من الجوع إلى زبونًا يشتري سلعة

عندما كانت فلسفة دعم الغذاء تهدف إلى حماية المواطن من عبء توفير حد كافٍ من الغذاء يقيه وأسرته من الجوع، كانت الدولة هي من تحمل هذا العبء. أما عندما يندثر الدعم العيني للغذاء ويتحول إلى دعم نقدي تلقي الدولة بكامل دورها في منظومة الغذاء على عاتق المواطن، ليحدد هو أولويات إنفاقه في ضوء دخله المحدود ويقف منفردًا أمام أعبائه في سد حاجة الأسرة من الغذاء وغيرها من الالتزامات.

ومع تغير رؤية الدولة وخطابها أصبحت من أولوياتها تهيئة المناخ العام وإعادة صياغة الفكر السائد حول هذه الأفكار.

ليس من قبيل الصدفة إذن أن تشيد ورقة بحثية للبنك الدولي بأهمية برنامج دعم الخبز الجديد (الذي يحدد سقف استهلاك الخبز بخمسة أرغفة في اليوم للفرد مع إمكانية تحويلها لنقاط على بطاقات التموين)، في سياق يحث على تغيير نمط سلوك المواطن من كونه منتفعًا بخدمة اجتماعية تحميه من الجوع والعوز إلى كونه زبونًا يشتري سلعة. أو أن تجد أصواتًا على السوشيال ميديا تنادي بمنح المحتاجين أموالًا بدلًا من شنط رمضان. ولا بد لعمرو أديب أن يتكلم عن محاسن توزيع الصدقات بشكل نقدي بدلًا من الطعام.

هكذا تبدو المساعي لخلق فكر جديد لتغيير النمط السلوكي للمجتمع حتى يواكب السياسات الجديدة.

والسؤال هو؛ هل لدينا الجهاز البيروقراطي المتمكن والمجتمع المدني القادر على تنظيم نفسه لاجتياز هذه المرحلة الانتقالية ومواكبة هذا التغيير العميق؟ أرى هنا عدة معضلات رئيسية، سواء اتفقت أو اختلفت مع رؤية الدولة يبقى الأمر مرتبطًا بعدة مسائل تقف في طريق نجاح هذا الاتجاه.

من يحمي المواطن من آليات السوق؟

يعتمد هذا التغيير على وجود سوق مفتوحة، يحكمها مناخ تنافسي وتكافؤ في الفرص، لكي تتحقق قوانين السوق المعروفة التي تتوقع تحرك الأسعار بناءً على العرض والطلب.

لكن إلى أي مدى تتحقق قوانين السوق مع سيطرة رأس المال الخليجي على حصة كبيرة من سوق الغذاء المصري في مواجهة منافسيهم من المصريين؟ هل نعيد في الوقت الراهن تجسيد سيناريو الانفتاح، حيث تنجح بعض الأطراف الأكثر قوة وثراءً في استغلال مقومات النيوليبرالية المتاحة دون غيرهم، ولكن الفرق هذه المرة أنهم ليسوا من المصريين؟

وللعلم، تعد دول الخليج وخاصة السعودية والإمارات من أكبر الدول استثمارًا في صناعة الغذاء، فلديهم أراضٍ في إثيوبيا وغيرها مخصصة للزراعة.

أما في مصر فلديهم منظومة متكاملة من أراضٍ زراعية في توشكى وشرق العوينات بالإضافة إلى شركات مهمة مثل مزارع دينا وأمريكانا صاحبة فارم فريتس ودجاج كوكي وغيرها، وصافولا المالكة لعلامات تجارية كبيرة في السوق مثل عافية والمراعي وسمن روابي وسكر الأسرة وغيرها.

ومتاجر خليجية مثل كارفور وسبينيس المنتشرة في أنحاء الجمهورية، بالإضافة إلى استحواذ الخليج مؤخرًا على نسب كبيرة من الحصص في سبع شركات أسمدة مصرية مما يعطيهم قدرة كبيرة على السيطرة على السوق المحلي من حصص وأسعار، ليحد ذلك من قدرة المزارع الصغير على البقاء.

وفي ظل استيراد مصر لحوالي 50% من حاجتها الغذائية، على المصنعين والمزارعين المحليين الصمود إما أمام منتج مستورد، أو أمام منتج مملوك لشركات عملاقة غير مصرية. 

بناء على هذه المقدمات علينا ألا نتوقع الكثير من النتائج، فمع توجه الدولة لسياسات السوق في ظل مناخ قاتم وظروف قاهرة، كيف يمكن للمجتمع أن يلعب الدور الذي رسمته له الدولة كلاعب في السوق، ويتكاتف وينظم جهوده لمواجهة مثل هذه التحديات؟ أسئلة تبحث عن إجابات.