تحت الاستعمار الفرنسي، كان القطاع الزراعي في المغرب موجه نحو تلبية احتياجات المستعمر خاصة من الحبوب، ولقد دأبت الدولة المغربية على المنوال نفسه بعد الاستقلال "الشكلي"، بتبني الاستراتيجيات الزراعية الحالية في البلاد سياسة توجيه الإنتاج نحو التصدير إلى أوروبا.
تُساهم سياسة الإنتاج من أجل التصدير في قطاعات فلاحية عدّة من بينها قطاع الحوامض والذي بلغت صادراته في 2019 نحو 607 ألف طن بزيادة 32% عن صادرات 2009.
بالإضافة إلى قطاع الخضروات، والذي زادت صادراته بنسبة 66% خلال الفترة نفسها، ناهيك عن باقي القطاعات الأخرى كالمنتوجات الفلاحية المحولة الذي زادت صادراته 89%.
السيطرة للكبار
كانت أولى توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين في بدايات 1960؛ تتمحور حول ضرورة اعتماد المغرب على الزراعة التصديرية كركيزة "للنموذج التنموي"، مع التشجيع على تمويله عبر القروض.
وفي سياق سياسات التكيف الهيكلي والانفتاح الليبرالي المعمم، منذ الثمانينيات، اتجهت البلاد لتقديم التيسيرات لجذب كبار الرأسماليين المحليين والأجانب للاستثمار في الزراعة لأجل التصدير، ومتعتهم بالإعفاءات والإعانات.
وبينما كان كبار الملاك يتوسعون في القطاع الزراعي، من الأسر المحلية والخليج أيضًا، تُرك صغار المزارعين لنظم الري غير المستقرة المعتمدة على الأمطار دون إيجاد البنية الأساسية المهيأة. هكذا تعززت سيطرة الكبار على الزراعة ومعها التوجه بشكل أكبر نحو إفادة السوق الأوروبي بأكثر من خدمة الطلب المحلي على المنتجات الزراعية.
وحسب آخر بيانات متاحة عن الإحصاء الفلاحي لسنة 1996، بلغ عدد الفلاحين الصغار الذين يملكون أقل من 5 هكتارات؛ 1.064.417 فلاحًا يمثلون أكثر من 71% من مجموع الفلاحين وهو 1.496.349 فلاحًا، لكنهم لا يستغلون سوى 24% من المساحة الزراعية الإجمالية.
في حين بلغ عدد الذين يملكون أكثر من 20 هكتارًا 58.996 فلاحًا، يمثلون قرابة 4% من المجموع، ويستغلون حوالي 33% من المساحة الزراعية الإجمالية.
أحوال منتجي الغذاء الصغار
ينتج صغار المزارعين لاستهلاكهم الخاص وللأسواق المحلية، ولهذا فإن استمرار الضغوط المعيشية عليهم بات يُهدد الأمن الغذائي للمغرب، ويصب في صالح تحول البلاد لنموذج قائم على التصدير بالأساس، حسب البحث الوطني حول "دخل الأسر: المستوى والمصادر والتوزيع الاجتماعي"، الذي أعدته المندوبية السامية للتخطيط خلال الفترة الممتدة من 1 ديسمبر/كانون الأول 2019 إلى نهاية مارس/آذار 2020، يعيش العُشر الأكثر فقرًا من الأسر المغربية بدخل فردي شهري لا يتجاوز 446 درهمًا بالوسط الحضري، و430 درهمًا بالوسط القروي، ما يُشير إلى زيادة قسوة الفقر في الأوساط الريفية.
تحت هذه الضغوط هجر الكثير من صغار المزارعين نشاط الفلاحة والإنتاج للسوق المحلي، خاصة مع ما تعرضوا له من منافسة من المنتجات الأجنبية في ظل انفتاح السوق.
وفي مقابل ذلك، كانت مؤسسات دولية عدّة تروج لسياسات التصدير، وسأعرض في الفقرة التالية نموذجًا لواحدة من المؤسسات التي أثرت على السياسة المغربية خلال العقود الأخيرة.
السياسات المملاة
في خريف 2007، أعد مكتب ماكنزي للدراسات بالولايات المتحدة الأمريكية دراسة استراتيجية لصالح وزارة الفلاحة والصيد البحري المغربية مقابل 24 مليون دولار، تم اعتماد هذه الدراسة كحجر الأساس لمخطط المغرب الأخضر 2008 - 2018 الذي أعلن الملك انطلاقته الرسمية في أبريل/نيسان 2008 ضمن فعاليات المعرض الدولي للفلاحة بمكناس.
وارتكز هذا المخطط على سياسة ليبرالية واضحة المعالم، مع التركيز على الفلاحة المتجهة نحو التصدير بغية تسريع إدماج الإنتاج الفلاحي المغربي ومعه غذاء المغاربة في السوق العالمية، عبر تحسين شروط الاستثمار بضمانات حكومية وتحفيزات مالية وجمركية فائقة السخاء لفائدة كبريات التكتلات الرأسمالية الفلاحية المحلية والأجنبية.
ينبني المنظور النيوليبرالي على فرضية مفتاحية مفادها أن السوق الحرة تضمن توزيعًا عقلانيًا للموارد، لكن هذه الفرضية لم تتحقق في القطاع الزراعي بالمغرب.
لم يضع المخطط الأخضر في حسبانه العجز الغذائي الحاصل في المواد الغذائية الأساسية بل ساهم في تعميقه، ما جعل المغرب من بين أكبر الدول المستوردة في منطقة البحر الأبيض للحبوب والبذور والزيت والسكر.
بالإضافة إلى هذا فإن ثمار المخطط الأخضر تم جنيها من طرف كبار الملاك والفلاحين، مقابل تهميش صغار منتجي الغذاء الذين لم يجنوا شيئًا من هذا المخطط سوى المزيد من الفقر.
ولخص الاقتصادي المغربي نجيب أقصبي عيوب المخطط الأخضر في نقاط عدّة، منها فشل المخطط في تعزيز استقرار عملية الإنتاج بسبب ارتباطه بالأمطار، مؤكدا أن "المغرب الأخضر" كان من بين أهدافه الأساسية أن يخفف وطأة التبعية للتقلبات المناخية، لكن هذا لم يتحقق.
كذلك فهو لم يمكن البلاد من تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الحيوية كالحبوب والسكر وسواهما، فـ"الكمية التي يتم استيرادها من الحبوب بقيت ثابتة لم تتغير".
بعد تطبيق المخطط الأخضر أصدرت الدولة المغربية ما أطلقت عليه استراتيجية الجيل الأخضر، والتي تحمل اختيارات الحاكمين في القطاع الفلاحي بالمغرب ذاتها، بالتالي المزيد من التشجيع للاستثمارات الكبيرة بهدف مضاعفة الصادرات، وتوسيع إعانات السلاسل الكبرى لتسريع التصنيع الفلاحي؛ مع الاستمرار في الاستحواذ على الأراضي ووضع ترسانة قانونية لتمليك الأراضي الجماعية.
بدائل يطرحها الـ"صغار"
أنجزت جمعية أطاك دراسة ميدانية بشأن القطاع الفلاحي بالمغرب، وتبين من خلال نتائجها الموثقة أن مطالب الفلاحين الصغار المغاربة لا تختلف عن مفهوم السيادة الغذائية، إذ أنها تتمحور حول حقهم في ضمان الموارد الأساسية اللازمة للقيام بدورهم في تعزيز الإنتاج الزراعي للبلاد.
الاستجابة لمطالب صغار المزارعين ستثمل تحولًا عن نهج البنك الدولي، الذي يركز على نموذج التصدير، والذي تقوده كبرى الملكيات.
تلتقي مصالح صغار المزارعين مع مصلحة الشعب المغربي بأكمله، لأنهم هم الأقدر على تعزيز المعروض من الغذاء في السوق المحلية، ومن ثم دعم السيادة الغذائية للبلاد.