بينما يستضيف المغرب الشهر المقبل اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين السنوية، التي تنعقد كل ثلاثة أعوام خارج واشنطن، فإن البلد المستضيف للقمة يُعد أحد أبرز الدول التي عانت من هيمنة سياسات هذه المؤسسات الدولية.
أحوال قطاع التعليم في المغرب واحدة من الحالات الكاشفة لتأثير الصندوق، والبنك على سياسات دول الجنوب النامي، ودورها في فرض نمط نيوليبرالي له انعكاسات سلبية على المستوى الاجتماعي.
قطاع التعليم في المغرب هو قطاع اجتماعي يتحدد داخل علاقات الإنتاج القائمة، لا بمعزل عنها، معنى ذلك أن هذا القطاع ليس منفصلًا في وجوده أو تطوره عن المجتمع الذي ينتمي إليه.
لذلك كانت سياسات التعليم دائمًا في قلب التجاذبات والصراعات السياسية، لأنها تعكس طبيعة المشروع المجتمعي الذي يحمله كل طرف.
نسعى في هذا المقال لتفسير أزمة النظام التعليمي المغربي، من منظور أوسع يرتبط بالتحولات التي مرت بها البلاد خلال العقود الأخيرة.
حصيلة سياسات نيوليبرالية فاشلة
لا شك أن التعليم رهان استراتيجي في التنمية والتقدم، إذ تربط مؤسسة اليونسكو في تحليلاتها بين التعليم وكل من الفقر، والنمو، والتنمية، والتقدم، والمساواة، والديمقراطية، والإصلاح الزراعي.
وفي هذا السياق، أطلق المغرب مخططات عدة لنشر وتحسين مستوى التعليم، لكن في الوقت نفسه اتبع خلال العقود الأخيرة سياسات تحد من تحقيق تقدم في هذا القطاع.
حدث ذلك من خلال التخلي التدريجي عن مبدأ المجانية لحمل الأسر على تحمل تكاليف تعليم أبنائها، وربط مضمون التعليم بروح المقاولة الرأسمالية. ولم تعد الميزانية المخصصة لقطاع التعليم تكفي لتغطية المخصصات المطلوبة للأساتذة والموظفين، أو تلك التي تتطلبها أعمال البنية والتجهيزات.
بدأ هذا التوجه في المغرب منذ الثمانينيات، مع تبني البلاد لسياسات التكيف الهيكلي، التي دعت للتخلي عن بعض الأدوار الاجتماعية للدولة لصالح تحرير السوق، وسن سياسة التقشف تنفيذًا لتوصيات المؤسسات المالية الدولية.
وفي هذا السياق أصدر البنك الدولي في 1995 تقريره الشهير حول قطاع التعليم، الذي تضمن انتقادات لنمط الإنفاق العام على التعليم، مع الدعوة إلى فتح القطاع للاستثمارات الرأسمالية الخاصة وتحفيزها.
واكب صدور تقرير البنك الدولي خطاب الملك الراحل الحسن الثاني، الذي اعتبر فيه أن البلاد تعيش حالة من السكتة القلبية بسبب مؤشراتها المالية والاقتصادية، ما كان تمهيدًا للانتقال للمرحلة النيوليبرالية.
ومنذ عام 1995 أيضًا، التزم المغرب بمقتضيات الاتفاق العام حول تجارة الخدمات الذي تبنته منظمة التجارة العالمية، والذي يطالب بإخضاع التعليم لمنطق السوق، ويمنع منح امتيازات لنظام التعليم العمومي على حساب القطاع الخاص.
وكما يتضح من بيانات البنك الدولي، انخفض نصيب التعليم من مجمل المصروفات الحكومية في الموازنة العامة من 20.5% في 1995 إلى 16.9% في 2021.
هكذا هيمن منطق التوازن المالي على سياسات التعليم؛ في مقابل تجاهل الجانب الاجتماعي الذي ينبغي أن يتمحور حول رفاهية الإنسان.
ما نتائج هذه السياسات؟
على مستوى التطبيق، أصدر المغرب العديد من الوثائق التي عبرت عن النهج النيوليبرالي الجديد في التعليم، ففي أبريل/نيسان 1994 شكل الملك"لجنة وطنية" تمثلت فيها الأحزاب والنقابات، لإدارة نقاش وطني حول سياسات التعليم.
أنتجت تلك اللجنة "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، ثم جاء البرنامج الاستعجالي (2009-2012) تحت دعوى أن أهداف الميثاق لم تتحقق، ولابد من إعطاء نفس للإصلاح، كما جاء في الخطاب الرسمي.
ولاحقًا أُطلقت وثيقة الرؤية الاستراتيجية (2015-2030)، وما تفرع عنها من قانون الإطار المعروض على البرلمان، ووثيقة الارتقاء بمهن التربية والتكوين.
ومن أبرز السياسات التي دعت إليها تلك الوثائق فتح المجال أمام التوظيف بالتعاقد للعاملين في قطاع التعليم، وهو ما يساهم في ضرب مكتسبات وحقوق هيئة التدريس، ويُفكك الحركة النقابية بهدف إضعافها وعزلها.
كذلك دعت تلك الوثائق إلى تنويع مصادر التمويل في إطار التضامن الوطني، ما يعني المزيد من المساهمات المالية للأسر المنتفعة بالتعليم العام، الأمر الذي يؤدي لضرب مجانية التعليم و عموميته.
ويكشف التقرير التحليلي للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الصادر بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2014، عن العديد من المؤشرات المالية التي توضح طبيعة الضغوط التي تتعرض لها الموازنة العامة، والتي تدعو لمثل هذه الإجراءات.
إلى جانب ذلك، دعت الوثائق، السابق ذكرها، إلى فتح قطاع التعليم بشكل أكبر للقطاع الخاص، بدعوى خفض الأعباء المالية على الدولة، لكن في الواقع كان الهدف هو المزيد من التسليع والخصخصة.
أحدث هذا التوجه تغييرًا جوهريًا في وظيفة المدرسة وفي مهام وأدوار المدرسين، بما يتلاءم مع منطق ومتطلبات السوق بهدف الربح والمنافسة. وانعكس هذا سلبًا على الأوضاع الاجتماعية للمدرسات والمدرسين؛ فيما يتعلق بالأجور، والترقي، وشروط التقاعد، إضافة الى مسألة التهرب الضريبي المتفشية في القطاع الخاص.
للاقتصاد وليس المجتمع
من جهة أخرى، كان هناك توجه واضح نحو تحديد الأولويات التعليمية بناءً على تلبية متطلبات سوق العمل، بدلاً من الاعتماد على تطوير المعرفة والقدرات الشاملة للفرد.
يؤكد البنك الدولي على ضرورة تركيز التعليم الأساسي على الكفايات العامة، مثل اللغة والعلوم والرياضيات. وبذلك، ينظر إلى التعليم بمثابة وسيلة لتزويد العمال بالمهارات اللازمة للعمل، وهو ما يقلل من فرص إعطاء مساحة لأولويات أخرى خارج خدمة السوق.
عبّر البنك عن هذه الرؤية في دراسة 1995 المشار إليها، والتي قال فيها إن التطورات الاقتصادية المتلاحقة تدعو إلى أن يكون من أولويات نظام التعليم؛ تلبية احتياجات سوق العمل.
هذا المنهج يتناسب تمامًا مع الأهداف الاقتصادية الليبرالية التي يُروج لها البنك العالمي، حيث يُعطي الأولوية لتقديم التمويل والقروض للمشاريع التي تهدف إلى تغيير الهياكل التعليمية والمناهج.
وهكذا، يظهر النموذج الاقتصادي كمقياس لتحديد مسار التعليم، ويتجاهل بشكل كبير الأبعاد الاجتماعية والثقافية للتعليم؛ وتأثيرها على المجتمعات.
ولتفعيل هذه السياسات، وُضعت أطر تشريعية تشجع على توفير التدريب والتأهيل اللازم للعمال.
ومن هنا، يتطلب تحقيق هذه السياسات تكييف النظام التعليمي، بشقيه العام والمهني، مع متطلبات النمو الاقتصادي.
القمة المضادة في مراكش
بالتوازي مع قمة البنك والصندوق في مراكش، ستنظَّم قمة مضادة لهذه الاجتماعات، وهي فرصة تاريخية للحركات الاجتماعية، والمنظمات العمالية المناهضة للسياسات النيوليبرالية.
وتحديدًا مَن في مقدمة ضحايا سياسات المؤسسات المالية الدولية، إذ تتيح لهم القمة فرصة الانضمام إلى الجهود الجادة التي يُبذلها مناهضي سياسات البنكين، بهدف تنظيم قمة مضادة تُبرز الصوت الرافض للنموذج الاقتصادي السائد، الذي يهدِّد مكتسباتنا التاريخية في مجالات الصحة والتعليم والتشغيل.
يشارك في هذه القمة عدد كبير من منظمات المجتمع المدني في المغرب والدول العربية، بالإضافة إلى منظمات أخرى من باقي دول العالم.
ستكون القمة المضادة فرصة لطرح تصورات بديلة حول كيفية تحقيق المزيد من العدالة في الإنفاق العام، والتي تتمثل في استعادة الدور الاجتماعي للدولة عبر تخفيف عبء الرسوم الدراسية على الأسر، مع تطوير نظام التعليم بحيث لا تصبح أهدافه قائمة على خدمة سوق العمل فقط.