تصوير:رافي شاكر
صورة أرشيفة من مخبز

عن الأمن الغذائي في مصر.. هي أشياء لا تشترى

منشور الأحد 19 مارس 2023

من أين

كيف

وإلى متى؟

يدور المصريون في فلك أسئلة وجودية عدّة على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية وقدراتهم المالية. يجلس بواب العمارة  كل صباح مع سائق الجيران تحت نافذتي فينتهي بهم الحديث دائمًا إلى أكل العيال وجنون الأسعار ومعاناتهم اليومية في سد جوع أسرهم.

تتبادل زوجتي الأفكار مع صديقاتها عن البدائل وما يمكن الاستغناء عنه لمحاولة لملمة ميزانية البيت التي تأن تحت وطأة اللامنطق. ويحدثني صديقي المقيم في المنيا عن اختفاء الدواجن من أسواق المدينة لغلو أسعارها. وتعج السوشيال ميديا بالنكات الساخرة من قتامة الحال.

يمكنني فهم المثل الشعبي "اللي معهوش ميلزموش" والذي كنت أراه ينطبق على الكماليات، ولكن عندما يمتد الأمر للأساسيات فهل ينطبق المثل على الحاجة للغذاء؟ هل أصبح التنوع الغذائي رفاهية؟ وحتى إذا توفرت السلع في الأسواق، فما هي أسعارها ومن يقدر عليها؟ والأهم: إلى متى سيظل قادرًا؟ وحتى مع وفرة رغيف الخبز بأسعار ملائمة للمواطن، هل يكفي لسد الحاجة الغذائية وهل يكون بديلًا مقبولًا للفاكهة والبيض والألبان وخلافه؟

تعوق القدرة الشرائية المحدودة في ضوء التضخم وسعار الأسعار الكثير من الأسر عن شراء كميات كافية من الطعام أو استهلاك نظام غذائي مغذي ومتوازن، مما يؤدي لانحصار نظامهم الغذائي إلى حد كبير في تناول كميات كبيرة من الأغذية عالية الطاقة ضعيفة الفائدة الغذائية.

هذه العادات الغذائية غير المتوازنة لها عواقب صحية وخيمة ومتنوعة مثل فقر الدم المتفشي بضراوة بين النساء والأطفال في مصر، وانخفاض مستويات المناعة وصعوبات النمو لدى الأطفال، من بين أمور أخرى ، خاصة مع اقتران ذلك بضعف أنظمة الرعاية الصحية.

يستند تعريف الوزير المصري إلى نظرة تعتمد في صلبها على آليات السوق وليس الإنسان

في أحد اللقاءات المسجلة في مايو/آيار الماضي عرّف وزير التموين المصري، علي مصيلحي، مفهوم الأمن الغذائي بإنه "يعتمد على ثلاثة محاور رئيسية هي توفير السلعة ثم إتاحتها لكل المواطنين في كافة أنحاء الجمهورية وكذلك محاولة ضبط الأسعار". بينما تُعرّف منظمة الأغذية والزراعة/الفاو التابعة للأمم المتحدة الأمن الغذائي بأنه "وضع يتحقق عندما يتمتع جميع الناس، في جميع الأوقات، بإمكانية الحصول المادي والاقتصادي على أغذية كافية وسليمة ومغذية تلبي احتياجاتهم الغذائية وأفضلياتهم الغذائية من أجل حياة نشطة وصحية".

بمقارنة التعريفين، سنجد أن تعريف منظمة الفاو يتمحور حول الإنسان، وهذا ليس تعريفًا أفلاطونيًا بل رؤية لتحقيق أهداف تُبنى عليها سياسات تنفيذية من مسؤولين.

بالإضافة إلى التركيز على التمكين الاقتصادي، فإن تعريف الفاو يتناول مفهوم "الإتاحة" بشكل مفصل، بحيث يشمل الوصول المادي المتعلق بالإجراءات الأمنية والمكانية والعملية والإنسانية، فضلًا عن التدابير الاجتماعية التي قد تشمل التسلسل الهرمي الطبقي والجنساني وحقوق الطفل والفئات الضعيفة.

يجب أن يكون الغذاء كافيًا وآمنًا ومغذيًا، وفقًا لهذا التعريف الذي يؤكد على جودة وكفاية الغذاء وكذلك الشعور بالأمان وعدم التعرض للمخاطر في الحصول على الغذاء.

يستند تعريف الوزير المصري إلى نظرة تعتمد في صلبها على آليات السوق وليس الإنسان. ولذا على الرغم من الجهود الكبيرة للدولة من بناء صوامع، ومدينة بدر للصناعات الغذائية، وشبكات للطرق لتسهيل تداول وتوفير السلع تبقى الأزمة كبيرة. لأن السياسات مبنية  على أساس سياسات "سوق" لا ترى ولا تضع في اعتبارها الحالة المادية للمواطن، وبالتالي تغفل إلى حد بعيد كون توافر السلع وحده غير كافٍ لحل الأزمة.

عندما تتمحور رؤية الحكومة حول توفير السلع يكون الحل السهل هو الاعتماد على الاستيراد كحل سريع لتجنب الأزمات، ولكن ما مدى استمرارية هذا الحل؟ وما تأثيره على الوضع الاقتصادي للبلاد وعلى أسعار الغذاء؟

عندما تتوفر السلع الغذائية بتكلفة باهظة ولا أحد يقدر على شرائها، ما العمل؟

تشير التقارير العالمية، طبقًا للهيئة الدولية لبحوث السياسات الغذائية/IFPRI، إلى سوء الوضع في مصر. فبنهاية عام 2022 كان ترتيب مصر يقع في الشطر الأسوأ بين دول العالم من حيث معدل التضخم الغذائي والذي وصل إلى نسبة 39% في مصر، وتسبقها أوكرانيا بنسبة 35% حيث الحرب التي يعلق عليها الجميع آثار أفعاله.

لم تعلن الحكومة عن تقديرات الفقر بعد عام 2019/ 2020 والتي وفقًا للأرقام الرسمية كانت وقتها 29.7%، أما عن الطبقة الوسطى فإن تقارير الأمم المتحدة في نفس الفترة تشير إلى تعدي نسبة الهشاشة الاجتماعية  30% من السكان، حيث يعيش الملايين من المصريين على بعد خطوة واحدة من هاوية الفقر.

قدرة واحد في المئة من السكان الأكثر ثراءً في مصر على استهلاك الغذاء تعد أعلى بـ 17 ضعفًا من أدنى 10 % من السكان

وبالأخذ في الاعتبار تردي الأحوال الاقتصادية للمواطنين على مدار السنوات الثلاث السابقة، بين جائحة كورونا وتعويمات عدة للجنيه وغيرها من اللطمات شديدة الضراوة، يمكننا التأكد من أن تلك النسب تفاقمت بشكل سريع.

وبالطبع يزداد الأمر قسوة على سكان الريف والصعيد بشكل خاص ممن يعانون منذ عقود من الزمن من أعلى نسب الفقر والجوع المزمنين.

فأكثر الفئات تأثرًا بالتضخم الغذائي هي بطبيعة الحال الأسر الأكثر فقرًا، التي تعاني من انعدام المساواة في الاستهلاك الغذائي. يشير تقرير للبنك الدولي إلى عدة مؤشرات لهذه الهوة السحيقة في القدرة الاستهلاكية، كان أكثرها فجاجة وإيلامًا هو أن قدرة واحد في المئة من السكان الأكثر ثراءً في مصر على استهلاك الغذاء تعد أعلى بـ 17 ضعفًا من أدنى 10% من السكان، وذلك طبقًا للبيانات الحكومية، التي تغفل بقدر كبير بيانات الطبقة شديدة الثراء، وبالتالي فمن المتوقع أن تكون مستويات عدم المساواة أعلى بكثير في الواقع.

 إذن، أكثر من نصف الشعب على أفضل تقدير يعاني بشدة، وتكافح الأغلبية المتبقية بشكل حثيث للتشبث ببعض الثبات الاجتماعي، ولكن الصفعات متتالية لنا جميعًا.

وبطبيعة الحال، تمتد رؤية الدولة المعتمدة على سياسات السوق لتشمل منظومة دعم الغذاء، وهي منظومة لها بعد تاريخي واجتماعي في الدولة المصرية منذ أربعينيات القرن الماضي.

ومع تحول العقد الاجتماعي بمصر مؤخرًا، تحول معه شكل دعم الغذاء من دعم عيني للسلع إلى إعانة مادية محدودة تقدر بخمسين جنيهًا في الشهر للفرد، لأسرة تتكون من أربع أفراد بحد أقصى، مع وجود منح استثنائية، مثل المائة جنيه التي قدرت لمدة ستة أشهر وكان من المقرر أن تنتهي في مارس/آذار الجاري ثم تم تمديدها لثلاثة شهور إضافية، ومن المتوقع استمرارها للتأكيد على تمسك الحكومة بمساعدة الفقراء.

وبتطبيق تعريف الأمن الغذائي طبقًا للوزير علي مصيلحي على منظومة الدعم، نجد أن مقولة أن المنظومة الحالية للدعم تعطي لمستحقيه حرية الاختيار مقولة باطلة. وذلك بسبب التهاوي المستمر للقوة الشرائية للإعانة الشهرية لحاملي بطاقات التموين. لا سيما أن أسعار المواد الغذائية المتاحة من خلال البطاقة مقاربة أو مساوية لسعرها غير المدعم.

وإذا ما قمنا بمقارنة قيمة الخمسين جنيهًا المقدمة عن طريق البطاقات التموينية في عام 2017 مع قيمتها الحالية، سنجد أنها كانت تعادل حوالي ثلاثة دولارات أمريكية، بينما تقدر اليوم بحوالي دولار ونصف فقط. وهذا معناه أنها فقدت نصف قيمتها، مع احتمال كبير في المزيد من الانخفاض القريب إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه.

 ومع تحديث قائمة المواد التموينية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي ضمت البطاقة الذكية ثلاثين سلعة، تنقسم إلى عشرين صنفًا من المواد الغذائية، وخمسة أنواع من المنظفات. وعلى الرغم من العدد الكبير للسلع الغذائية فإن اختيار العناصر المدرجة في قائمة الدعم لا يعتمد على قيمتها الغذائية أو تنوعها الغذائي، بل يعتمد في الغالب على توفير مواد غذائية عالية الطاقة.

فينتهي الحال بصاحب البطاقة إلى شراء سلعة أو اثنين فقط لا تسمن ولا تغني من جوع، ويبقى مهزومًا أمام نفس الأسئلة الوجودية: من أين.. كيف.. وإلى متى؟