كان سامر سليمان، رحمه الله، كثيرًا ما يقول إن الموازنة العامة للدولة وثيقة سياسية كاشفة عن انحيازاتها الحقيقية بعيدًا عن أي ادعاءات أو خطابات، وذلك لأن الموازنة تُظهر أين تذهب أموال الدولة، أي النفقات ومَن يستفيد منها ومَن لا يستفيد، كما تُظهر من أين تأتي الإيرادات، ومَن يتحمل سدادها إلى الدولة ومَن لا يتحمل.
قبل بضعة أيام أصدرت الحكومة البيان المالي عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة القادمة 2023/2024. وهي وثيقة طويلة نسبيًا مليئة بالأرقام والمصطلحات والطلاسم تمثل ما يمكن عدّه خطة الدولة المالية بما عليها من التزامات، وكيف ستفي بها من خلال توليد إيرادات أو عن طريق الاقتراض.
كان أشد ما لفت انتباه المتابعين للموازنة، ممن أوتوا علم المالية العامة، أن خدمة الدين العام، محليًا كان أو خارجيًا، للعام القادم ستمثل 37.4% من إجمالي المصروفات. وهو ما يعني أن أكثر من ثلث الإنفاق الحكومي سيذهب لسداد أقساط وفوائد الديون الحكومية، سواء كانت بالجنيه المصري أو بالعملة الصعبة.
وبديهي أن يتسبب ذلك الارتفاع الكبير في خدمة الدين في الحد من فرص الإنفاق على المجالات الأخرى، فطبقًا للبيان المالي نفسه من المتوقع أن ينخفض نصيب الأجور والتعويضات، أي رواتب العاملين في الدولة، من إجمالي المصروفات من 18.7% في 2022/2023 إلى 15.7% في 2023/2024.
ويمكن أصلًا ملاحظة أن الإنفاق على الدعم والرواتب مٌجتمِعين يقل قليلًا عن خدمة الدين، التي تبزغ كأكبر بند منفرد للإنفاق العام.
كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟
سيقول الخبراء من الناس أن السبب هو الحرب في أوكرانيا ورفع الفائدة من قِبل الفيدرالي الأمريكي وسنوات وباء كورونا. ولكن للحق فإن أرقام الموازنات العامة طيلة العقد الماضي تُظهر أن تضخم بند خدمة الدين من أقساط وفوائد لم يكن وليد آخر سنتين أو ثلاث، بل نتاج تغيرات في هيكل الإنفاق العام، والاتجاه نحو التوسع في الاقتراض الخارجي والداخلي وتعرض الجنيه لسلسلة من الانخفاضات الشديدة المتتالية.
إذا نظرنا إلى المبالغ المطلقة بالمليار جنيه في 2011-2021 سيظهر لنا أن الإنفاق على خدمة الدين الحكومي كان ينمو بمعدل مدهش
بالاعتماد على بيانات البنك المركزي المصري، يمكن رصد تغيرًا كبيرًا، بل وجسيمًا، في هيكل النفقات الحكومية خلال العقد الأخير، 2011-2021، مقارنةً بسنوات حكومة أحمد نظيف، 2006-2010. ففي السنوات الأخيرة من حكم حسني مبارك الطويل جدًا كان متوسط نصيب كل بند كالآتي: الأجور 21.58%، وخدمة الدين الداخلي والخارجي معًا 14.88%، والدعم والمنح 38.07%.
أما في السنوات منذ 2011 وحتى 2021 فيلاحظ ثبات متوسط نصيب الأجور في النفقات الحكومية 21.49%، مع انخفاض في نصيب الدعم إلى 31.44%، وتضاعف تقريبًا نصيب خدمة الدين من أقساط وفوائد من 14.88% إلى 27.23%.
وخلال السنوات العشر الماضية تجمد نصيب بند الأجور الحكومية بمعدل زيادة سنوية متوسطه 0.96%، بمعنى أن نسبة الأجور من الإنفاق الحكومي كانت تزيد بنحو 1% سنويًا، ويجدر هنا ملاحظة أن التركيز هو على تطور نسبتها من الإنفاق وليس على تطور الرقم المطلق المقوم بالمليارات من الجنيهات التي تزغلل العين من كثرة أصفارها.
أما الدعم والمنح والحماية الاجتماعية، فكان نصيبه يتقلص بسالب 4.81% سنويًا، وهو بالفعل ما اتصل بالتخفيضات المتتالية لدعم الطاقة وترشيد دعم الغذاء، بدءًا من 2015 وحتى اليوم، بشكل عام هبط بند الدعم من نحو 25% في 2011 إلى 17.7% في 2022.
في المقابل، فإن خدمة الدين، داخليًا كان أو خارجيًا، زاد نصيبها من النفقات الحكومية بمعدل 6.43% سنويًا.
إذا نظرنا إلى المبالغ المطلقة بالمليار جنيه في نفس الفترة (2011-2021) سيظهر لنا أن الإنفاق على خدمة الدين الحكومي كان ينمو بمعدل مدهش (21.35%) سنويًا (كمتوسط) مقابل 12.27% و12.38% لبندي الأجور والدعم على الترتيب.
ولا تقول لنا الأرقام المطلقة بالمليار جنيه الكثير في ضوء ارتفاع معدلات التضخم، ولذلك المهم هنا هو مضاهاة معدلات الزيادة لكل بند بما يكشف لنا بما لا يدع مجالًا للشك أن بند خدمة الدين كان ينمو بنحو 60% أكثر من الأجور والدعم في تلك الفترة.
التضخم في بنود خدمة الدين يعني أن التوسع في الاقتراض في المستقبل القريب سيكون ببساطة شديدة لسداد القروض القديمة
إذن، لقد ساء الوضع كثيرًا نتيجة لارتفاع معدلات الفائدة على الدولار وارتفاع تكلفة الاقتراض لدول متوسطة الدخل مثل مصر. ولكن توصيفًا أدق للواقع هو أن الوضع حقيقةً قد سار من سيء إلى أسوأ، لأن تضخم الدعم الحكومي بشقيه الداخلي والخارجي معًا تُرجم بطبيعة الحال إلى ارتفاع في خدمة تلك الديون.
ماذا كان ليقول سامر؟
في الغالب كان تعليق سامر سليمان على هذا الوضع، باعتبار الموازنة وثيقة سياسية كاشفة، أن الدولة نجحت في تخفيض الدعم والحماية الاجتماعية، وحولت تقريبًا ما وفرته من أموال لخدمة الدين الحكومي الخارجي والداخلي، بما يعنيه ذلك من تخصيص المزيد من الموارد العامة لأصحاب القروض، سواء كانت ممثلةً في البنوك المحلية التي تُقرض الحكومة، أو صندوق النقد الدولي والمستثمرين الأجانب في الدين الحكومي المقوم بالدولار (أو باليورو والين مؤخرًا).
لم يكن تحفيض الدعم ضمن الإجراءات التقشفية التي طبقتها الحكومة المصرية منذ 2015 أمرًا سلبيًا بالضرورة. بل على العكس، كان استهداف دعم الطاقة بالتخفيض المتكرر أمرًا له ما يبرره، ليس ماليًا فحسب بل اجتماعيًا وبيئيًا كذلك.
ولكن في المقابل، كان الأمل، والخطاب الرسمي المستخدم لتبرير تلك التخفيضات، أن هذه الوفورات ستذهب إما لأوجه أخرى من الدعم للفئات المستحقة، أو للاستثمار العام ذي العائد الاجتماعي والاقتصادي الكبير في الصحة العامة والرعاية الصحية والتعليم والتدريب. وهو أمر لم يحدث.
ببساطة شديدة لأنه المبالغ المخصصة لقطاعات كالصحة والتعليم تظل أقل مما كان منصوصًا عليه في المادة رقم (19) من الدستور عندما أخذت لجنة الخمسين ميثاقًا غليظًا من الدولة كي تنفق على التعليم والصحة والحماية الاجتماعية حدودًا دنيا، كنسب من الناتج المحلي الإجمالي لا يجوز النزول عنها.
للدين الحكومي المصري قصة طويلة، بل قصص، تتصل بمشكلة تحصيل الإيرادات الضريبية للوفاء بالنفقات الحكومية، ما ولد عجزًا مزمنًا في الموازنة العامة استلزم بدوره التوسع في الاقتراض المحلي ثم الخارجي على نحو موسع. ولكن يبدو أننا قد بلغنا نهاية هذا السبيل، لأن التضخم في بنود خدمة الدين يعني أن التوسع في الاقتراض في المستقبل القريب سيكون ببساطة شديدة لسداد القروض القديمة، وهكذا وهكذا.