منشور
الأربعاء 30 نوفمبر 2022
- آخر تحديث
الأحد 4 ديسمبر 2022
قبل بضعة أشهر من وفاته غير المتوقعة، ألقى سامر سليمان محاضرة حول أزمة الدولة المالية. كان هذا في أعقاب الإعلان عن نتائج انتخابات الرئاسة في 2012، وفوز محمد مرسي بها، وما أعقب ذلك من بدء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي آنذاك بحثًا عن مخرج لأزمة العملة الصعبة وتدهور مؤشرات المالية العامة خاصة العجز في الموازنة والدين العام.
لم يعلِّق سليمان على اللحظة لأنه كان يراها امتدادًا مباشرًا لتطورات في الاقتصاد السياسي لمالية الدولة العامة في مصر ترجع على الأقل إلى منتصف الثمانينيات بحسب ما يظهر في كتابه العمدة "الدولة الضعيفة والنظام القوي: إدارة الأزمة المالية في مصر"، الذي صدر بالعربية في 2005.
أتذكر جيدًا الطرح المتماسك الذي قدمه سليمان أثناء المحاضرة في عبارة واحدة تجمع بين ما هو مالي واقتصادي وما هو سياسي، وبما يختزل اللحظة آنذاك، واللحظة الراهنة اليوم، في أن الدولة المصرية تخوض عملية متعسرة للتحول من دولة ريعية إلى دولة ضريبية.
رحل سليمان، الذي تحل ذكراه العاشرة هذه السنة، في ديسمبر/ كانون الأول 2012، لكن استمرت أزمة الدولة المالية في مصر، بل تفاقمت في محتواها وحجمها وتبعاتها، وبقي تحليل سليمان كواحد من أهم الأطر التي يمكن من خلالها الإلمام بجذورها وبمآلاتها وبأبعادها المعقدة التي تجمع بين الاقتصاد والسياسة، وبين ما هو محلي وما هو دولي.
إن التحول من دولة ريعية إلى أخرى ضريبية ليس خيارًا حرًا اتخذته السلطات العامة في مصر، ولا حتمية بمعنى أن الغاية أو النتيجة النهائية مضمونة. فمن ناحية، فإن المصادر الريعية، وهي كل الإيرادات التي تحصل عليها خزانة الدولة بشكل مباشر كحال دخل قناة السويس السنوي ومبيعات البترول والغاز الطبيعي والذهب (سواء اعتبرتها البيانات الرسمية ضريبية أو غير ضريبية فهذه فنيات لا تغير من حقيقة الأمر شيئًا) ومعها المساعدات والمعونات الخارجية.
هذه الموارد جميعًا شهدت تراجعًا مستمرًا منذ نهاية الثمانينيات في وزنها النسبي للناتج المحلي الإجمالي وحتى بالنسبة لإيرادات الدولة. فعلى سبيل المثال، فإن مبيعات الدولة من البترول والغاز الطبيعي انخفضت من 15.21% في 2008 إلى ما هو دون 3% في 2020 طبقًا لبيانات البنك الدولي، وذلك رغم الكشوف المهمة في البحر المتوسط لحقول الغاز الطبيعي، التي رغم الزيادة المتحققة في الإنتاج فإن الجزء الأكبر منه قد ذهب للاستهلاك المحلي.
ولا ينطبق ذلك على وزن الصادرات من الطاقة فحسب بل كذلك على إيرادات قناة السويس، التي تفيد بيانات المركزي المصري أنها مثلت 1.82% من الناتج المحلي الإجمالي في 2011 لتنخفض إلى 1.66% في 2019، على الرغم من الزيادات في حجمها المطلق بالدولار.
انعكس تآكل الإيرادات الريعية على قدرة الدولة على تحصيل ما تحتاجه من أموال حتى تفي بنفقاتها، التي استمرت في الارتفاع على عكس الإيرادات منتجة عجزًا ودينًا عامًا ينبغي تمويله. يشير الشكل التالي إلى أن إجمالي إيرادات الدولة بمكونيها الضريبي وغير الضريبي قد أخذت منحى هابطًا في العقدين الماضيين لتنخفض من 28.14% في 2008 إلى 20.89% في 2018 أي حتى قبل أن يضرب فيروس كورونا المستجد.
ويمكن بسهولة أن نعزو ذلك الانخفاض إلى تراجع الموارد الريعية، دون القدرة على تعويضها بزيادة الإيرادات الضريبية، وهو ما يظهر كذلك في الرسم، ويشي بأن إيرادات الدولة الضريبية بكافة أشكالها من ضرائب مباشرة على الدخل والأرباح والملكية وأخرى غير مباشرة كالقيمة المضافة والجمارك لم تراوح مكانها طيلة ما يقرب من عشرين سنة، ورغم كل الزيادات الاسمية التي حققتها خزانة الدولة فإن وزن الإيرادات الضريبية ظل جامدًا محله دون اختلاف يذكر.
أي أن حسب طرح سليمان، فإن التحول عن الدولة الريعية استمر في الحدوث بحكم تباطؤ نمو تلك الإيرادات نسبة للناتج المحلي، ولكن ميلاد الدولة الضريبية الذي انتظره سامر لم يتحقق حتى بعد مرور عشر سنوات على وفاته، ولا تزال العوامل الاقتصادية السياسية التي تحدث عنها صالحة لفهم الأزمة المالية المستمرة.
كان تشخيص سليمان لأزمة الدولة المالية في عصر مبارك متصلًا اتصالًا مباشرًا بغياب القدرات المؤسسية متمثلة في الإدارة والموارد البشرية والأطر القانونية والتنظيمية، لكن كذلك السياسية مع شرائح اجتماعية بعينها، لزيادة الحصيلة الضريبية على الرغم من الوعي المتزايد لدى رجال الدولة بالحاجة لتوسيع القاعدة الضريبية.
كان تصور سامر أن بناء القدرات المؤسسية ليس مسألة تتم في فراغ بل تخضع لإعادة صياغة العلاقات بين الدولة وبين الفئات الحائزة لرأس المال وللملكيات وللدخول المرتفعة نسبيًا في شرائح الطبقة الوسطى، التي يمكن إخضاعها جميعًا للتحصيل الفعلي.
وهو ما لا يبدو أنه حدث على أي نحو مؤثر، إذ أن الزيادة الكبرى في الإيرادات الضريبية في السنوات الأخيرة قد جرت في ميدان ضرائب الاستهلاك خاصة مع تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وهذه ضرائب غير مباشرة يتم تحصيلها على حركة السلع والخدمات، ورغم زيادتها فإن الحصيلة لم تنعكس على نسبة الإيراد الضريبي للناتج كما يظهر أعلاه.
أما الضرائب على الدخل والأرباح التجارية والصناعية والمهنية والرأسمالية، التي ينبغي تحصيلها من فاعلي القطاع الخاص، الذين يمثلون نحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن إسهامهم في الإيراد الضريبي للدولة لا يتجاوز 15% على أفضل تقدير، وهي صورة لا تختلف كثيرًا عما رصده سليمان في حياته.
ولكن الأمر ليس تمامًا كما تركه سامر إذ أن أزمة الدولة المالية قد تفاقمت من حيث تبعاتها وآثارها في السنوات الأخيرة على صعيدين اثنين: الأول هو أن الحاجة لسد العجز في الموازنة قد اتسعت لتشمل تضخم الدين الخارجي بجانب الدين الداخلي، ولتصل مستويات الاستدانة العامة لما يجاوز الناتج المحلي الإجمالي طبقًا لبعض التقديرات، ويعني ذلك أن مشكلات الموازنة العامة للدولة تداخلت على نحو متزايد مع مشكلات الميزان الجاري وميزان المدفوعات، بما تجلى بالطبع في الضغوط المتصاعدة على العملة الوطنية مقابل الدولار.
وأما الصعيد الثاني فهو الاتجاه لزيادة موارد الدولة عن طريق تسليع الأصول العامة مثل الأراضي المملوكة للدولة بغرض توليد إيرادات يمكن استخدامها لتمويل نفقات الدولة الاستثمارية أو الاستهلاكية. وهو أمر يمكن ملاحظة مقدماته في حياة سامر، ولكنه بلغ مستويات جديدة من العمق والاتساع في السنوات القليلة الماضية.
رحل سامر، وبقي عمله، واستمرت الأزمة التي اهتم برصدها وتحليلها.