بعد سنوات من اشتعال أزمة الديون السيادية في أوروبا عامي 2009 و2010، نشر أستاذ الاقتصاد السياسي الألماني وولفجانج شتريك كتابه شراء الوقت: الأزمة المؤجلة للرأسمالية الديمقراطية، الذي يقدم قراءة ثاقبة في أسباب تراجع الدول عن الإنفاق الاجتماعي والاهتمام برفاه مواطنيها، لصالح سداد ديونها المتراكمة، وهو التحليل الذي ينطبق على الحالة المصرية في الكثير من جوانبه.
يَسُكُّ شتريك في كتابه، الذي تُرجم إلى العربية عام 2017، مفهوم "دولة الديون"، ويتخذ منه مدخلًا لوصف ما رآه تحولًا في وظائف الدولة في السياق الأوروبي، من دول تعتمد على تحصيل الضرائب لتمويل الخدمات العامة، إلى دول تعتمد بشكل متزايد على الاستدانة لسد العجز في موازنتها.
تبنى شتريك تفسيرًا واحدًا لضعف العائد الضريبي وارتفاع الدين الحكومي، وهو ما جرى في عقود التحرير المالي منذ الثمانينيات، مع إتاحة مساحة كبرى لرأس المال ليتحرك عبر العالم بدون قيد أو شرط، لتدخل الأموال وتخرج من الأسواق المختلفة في رحلة بحثها عن أعلى عائد في أقصر وقت ممكن.
ورصد شتريك تأثير هذا التحرير على تقليص قدرة الدول في المركز الرأسمالي في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على فرض وتحصيل الضرائب، في مقابل انفجار معدلات الدين العام لديها.
كان تركيز شتريك على الدول الرأسمالية الديمقراطية، أي ما يُسمى بالعالم المتقدم أو المركز الرأسمالي، ويشمل أمريكا الشمالية وغرب أوروبا واليابان. وبالفعل فإن نسب الدين الحكومي في هذه المناطق من الناتج المحلي الإجمالي، ناهيك عن الدين الخاص للأفراد والشركات، هي الأعلى في العالم.
الدولة صاحبة أعلى معدلات الاستدانة هي اليابان، إذ يبلغ دينها العام 252% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2023، وهو ضعف المتوسط العالمي. أما الولايات المتحدة فارتفع دين الحكومة الفيدرالية من نحو 105% من الناتج المحلي في 2015 إلى 124% في 2023.
أما في منطقة اليورو، فيبلغ متوسط الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي 89.9%، وفي دول الاتحاد الأوروبي 82.6% في 2023.
الأمر أسوأ في الحالة المصرية
لا تقف مصر استثناءً، إذ يقدر البيان المالي لموازنة 2025/2024 حجم الدين العام بشقيه الداخلي والخارجي بنحو 101% من الناتج المحلي الإجمالي إذا أضيفت إليه في ذلك ديون الهيئات الاقتصادية، و96% بدونها.
بالطبع لا يعني هذا أن الرؤوس تساوت، لأن بلدانًا مثل اليابان والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا تقترض بعملاتها المحلية، التي تُستخدم، بدرجات متفاوتة، في التجارة والاستثمار الدوليين، وبالتالي لا تعاني من مخاطر انخفاض عملاتها الوطنية بشكل مفاجئ أو متكرر، أو من تدهور شروط نفاذها إلى أسواق المال العالمية.
اعتماد "دولة الديون" المفرط على الاستدانة يجعلها مسؤولة أمام الدائنين لا أمام شعبها
وضع الدين في مصر ليست وليد السنة الجارية ولا العقد الماضي، بل ملمح أساسي من ملامح مالية الدولة في مصر على أقل تقدير منذ ثمانينيات القرن الماضي، كما أمسك به وحلله الراحل سامر سليمان في كتابه العمدة الدولة الضعيفة والنظام القوي، الذي صدرت طبعته الأولى في 2005.
تنسجم ملامح أخرى من الموازنة مع مفهوم دولة الديون. فالإيرادات الضريبية لا تتجاوز 12% من الناتج المحلي للسنة المالية القادمة، وإذا أضفنا الإيرادات غير الضريبية فسترتفع النسبة إلى نحو 15%، بينما تقف المصروفات عند نحو 22%.
لكنَّ اللافت للنظر أن هذه الموازنة تحمل في طياتها أكبر تحول حاسم نحو دولة الديون في مصر، إذ تبلغ نسبة خدمة الدين 47% من إجمالي المصروفات، وهي الأعلى مطلقًا في تاريخ مصر المعاصر. يعني ذلك ببساطة أن نحو نصف ما ستنفقه الدولة في السنة المالية التي تبدأ نهاية الشهر الحالي سيذهب لسداد أقساط وفوائد الديون التي اكتسبتها الحكومة في مراحل سابقة.
ويزيد الأمر فداحةً إذا أخذنا في الاعتبار نسبة خدمة الدين من الإيرادات الحكومية، التي ارتفعت من نحو 49% في 2022 إلى 56% و69% في 2023 و2024 حسب تقدير وزارة المالية! أي أن الدولة تُحصِّل إيراداتها الضريبية وغير الضريبية كي تدفع بالأساس لدائنيها، سواء كانوا محليين أو خارجيين.
ورغم أنَّ التركيز عادة ما يكون على الدين الخارجي المقوم بالعملة الصعبة، يمثل الدين المحلي العام المقوم بالجنيه المصري، الذي تحصل عليه الحكومة بالأساس من الجهاز المصرفي، 70% من الناتج، فيما يمثل الدين الخارجي، على خطورته، النسبة الأصغر.
يختلف الدين المحلي عن الدين الخارجي في الكثير من جوانبه، خاصة للبلدان في الجنوب العالمي التي تعاني من اختلالات خارجية مزمنة مثل مصر، لكن في نهاية المطاف فإن انطباق مفهوم "دولة الديون" يتعلق بتضخم أرصدة الدين الحكومي وبنود خدمتها، بما يصل بها إلى الطغيان على وظائف الإنفاق العامة للدولة فتتحول إلى وسيط بين المجتمع والدائنين.
الخبز مقابل الديون
بالعودة إلى وولفانج شتريك، فإن رؤيته لأزمة دولة الديون تدور حول اعتمادها المفرط على الاستدانة بما يحولها من دولة يسائلها شعبها عند صنع السياسات الاقتصادية والاجتماعية إلى دولة مسؤولة أمام الدائنين الذين إن لم يحصلوا على الشروط الملائمة التي تضمن لهم استرداد أموالهم وتحقيق العائد فإنهم سيتوقفون عن مدها بالقروض.
رأى شتريك هذا يتجسد أوروبيًا في التقليص المستمر لشتى أنواع الإنفاق الاجتماعي، وتبني سياسات عامة تخدم مصالح الدائنين، كما كان الحال مع تدخل الحكومة الألمانية في أزمة الديون اليونانية لإنقاذ البنوك الألمانية كونها أكبر مقرض للحكومة اليونانية.
أما الدول المستدينة، فعليها إرضاء دائنيها باستمرار، بحيث يتساءل صانعو القرار الاقتصادي عما سيفعله الدائنون حال تبني إجراء ما من عدمه، بدلًا من أن يكون إرضاء المواطنين أو تجنب إغضابهم هو البوصلة في صنع القرار.
يذكرنا ذلك بالنقاش الدائر قبل أيام في الكثير من الأوساط حول المقارنة بين الوفرة المتوقعة من رفع سعر الخبز المدعم، وخدمة الدين العام الهائلة التي سنسددها في العام المالي المقبل، وهو نقاش ليس ببعيد عن حالة "دولة الديون" التي باتت تهيمن على المالية العامة في مصر خاصة خلال السنوات الأخيرة.