اعتاد أحمد إبراهيم، بائع البطاطا في حي المقطم، أن يشتري لأسرته 300 رغيف شهريًا من الخبز المدعم بتكلفة 15 جنيهًا، مستفيدًا من قيده هو وزوجته في نظام البطاقات التموينية. لكن بعد قرار الحكومة رفع سعر الخبز المدعم بدءًا من الشهر الحالي، ستزيد التكلفة على عائلته إلى 60 جنيهًا.
تجسد حياة بائع البطاطا الأربعيني، الذي يسكن حي الزلزال فوق جبل المقطم، تقلبات الاقتصاد الأخيرة، إذ فقد وظيفته المستقرة كساعٍ في إحدى الشركات الخاصة بسبب جائحة كورونا، ومن وقتها وهو يكافح على عربته من أجل تدبير احتياجات طفليه أمام معدلات التضخم المتصاعدة.
تُمثّل القروش القليلة التي أقرتها الحكومة قبل أيام لتحريك سعر الرغيف الثابت منذ 1989 فارقًا كبيرًا في ميزانية عائلة إبراهيم، خاصة وأن عمله الحالي لا يوفر له دخلًا مستقرًا "أيام أصفّي 200 جنيه ربح، وأيام أروّح يادوب بتمن البضاعة"، وإن كان دخله الشهري لا يتجاوز في أحسن الأحوال 3000 جنيه.
رغم قسوة الإجراءات الأخيرة على إبراهيم، ومعه ثلث المصريين تقريبًا ممن يقعون تحت خط الفقر، اتسم رد الفعل الشعبي بالتكيف مع الأمر الواقع، على عكس العديد من التحليلات التي كانت، حتى وقت قريب، تشير إلى أن النموذج السياسي في مصر يقوم على مقايضة الخبز بالحرية، وأن أي مساس بـ"العيش" سينتقص من شرعية النظام الحاكم.
"القرار أصاب بشكل مباشر من يمكن وصفهم بـ أفقر الفقراء، وهؤلاء في العادة ليسوا أعضاءً في نقابات عمالية أو مهنية تساعدهم على تنظيم أنفسهم للتعبير عن رأيهم" كما يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة مصطفى كامل السيد، لتفسير هدوء قطاعات كبيرة من المواطنين تضررت من القرارات الأخيرة.
وبينما يستدعي كثيرون ذكرى انتفاضة يناير 1977 للتحذير من ثورة خبز جديدة في مصر، يرى السيد في حديثه مع المنصة أن هناك فارقًا كبيرًا بين الحقبتين.
"لا تجوز مقارنة رفع سعر الخبز المدعم الآن بما حدث في انتفاضة 1977. وقتها كان القرار مفاجأةً للجميع. أما قرار زيادة سعر الخبز المدعم الآن، فسبقه تمهيد بتصريحات حكومية وإعلامية، بالإضافة إلى حديث رئيس الجمهورية نفسه عن عدم معقولية سعر الخبز حاليًا، عندما قال إنه لا يعقل أن يكون عشرون رغيفًا بثمن سيجارة واحدة".
منذ عامين، بدأت تحليلات عدة تتناول عبء دعم الخبز مع ارتفاع أسعار القمح العالمية بسبب حرب روسيا على أوكرانيا، وتزايدت مصاعب الدعم مع أزمة شح النقد الأجنبي بالنظر للاعتماد الكثيف على استيراد القمح من الخارج.
لكن في المقابل، أثار رفع سعر الخبز استياء الكثيرين نظرًا لدوره البارز في حماية ملايين الأسر من السقوط في براثن الفقر، كما أن الوفر المحقق من الإجراء الأخير يمثل مبلغًا ضئيلًا أمام ما تدفعه الدولة سنويًا لخدمة الدين العام.
هل من سبيل للاحتجاج؟
رغم أن الأكثر احتياجًا لدعم الخبز يقعون تحت خط الفقر الغدائي، أي الفقر المدقع، ممن تقدر الدولة عددهم بنحو 4.5% من السكان، لكنّ هناك أيضًا قطاعات ممن يقعون فوق هذا الخط كانوا يعتمدون على الدعم مثل نادية حسن.
تعول نادية وزوجها أسرة من أربعة أفراد بدخل شهري 6 آلاف جنيه، وتشعر بالاستياء من زيادة الخبز الأخيرة، الذي مع قلة جودته كانت الأسرة تلجأ إليه "عشان مش هاقدر أروح أشتري عيش سياحي" الذي يبدأ سعره من جنيه ونصف.
ملايين الأسر، مثل عائلة نادية، كافحت خلال العامين الأخيرين للتكيف مع مستويات قياسية سجلها التضخم، من أجل تدبير احتياجاتهم الأساسية، فوفقًا لدراسة أعدها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن 74% من الأسر خفضت استهلاكها من السلع الغذائية بسبب زيادة الأسعار بعد حرب روسيا على أوكرانيا، و90% من الأسر خفضت استهلاك البروتين الحيواني، فيما خفضت 74.7% استهلاك الأرز.
تنفق نادية حاليًا نحو 25% من دخل الأسرة على إيجار الشقة التي تسكنها في حي المطرية، بالإضافة إلى الدروس الخصوصية التي تستقطع ما لا يقل عن 600 جنيه شهريًا، ومثله تضعه نادية تحت بند الفحوصات الطبية والأدوية. ما يعني أنه يتبقى للأسرة حوالي 3300 جنيه في الشهر، "مفروض أروح الشغل أنا وجوزي، وناكل ونشرب ونعيش كلنا بالمبلغ دا".
ويرى السيد أن الطبقات المختلفة، وعلى الرغم من تعبيرها عن استيائها من قرار زيادة سعر الخبز، لكنها لم تكن متأهبة للتعبير عن أي فعل احتجاجي "الناس عارفه أنه مش هيحصل جديد، حتى لو احتجوا".
السكوت لا يعني عدم الغضب
بالإضافة لذلك، يخشى الكثير من المواطنين التعرض لتضييقات أمنية في حال التعبير عن رفضهم للقرار، على خلفية ممارسات جرى اتباعها من قبل ضد فئات عبرت عن استيائها من زيادات في الأسعار.
وسبق وألقت قوات الأمن القبض على العشرات عند احتجاجهم على زيادة أسعار تذاكر مترو الأنفاق في 2018. وحسب مؤسسة حرية الفكر والتعبير، وجهت لـ10 مواطنين ألقي القبض عليهم من محطة مترو حلوان "اتهامات بالتظاهر وتجمهر أكثر من 5 أشخاص والإخلال بالأمن العام وتعطيل مرفق عام وتعطيل مصالح المواطنين".
ويشير التقرير السنوي لحرية الفكر والتعبير إلى أن عام 2023 شهد وقائع قبض على مواطنين من طبقات مختلفة نتيجة مشاركتهم أو إعدادهم مقاطع مصورة على فيسبوك أو تيك توك تتناول غلاء الأسعار بعد انخفاض قيمة الجنيه مقابل الدولار، وأزمات أخرى من بينها انقطاع الكهرباء.
ولفت التقرير إلى أنه بعد التحقيق مع المتهمين في مقار الأمن الوطني، عرضوا على النيابات التي وجهت لهم تهم الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي.
"معنديش بديل، أعمل إيه؟ هروح أعمل ثورة يعني؟ أنا راجل كبير ومش باقي لي كتير في العمر"، يقول حامد الجندي، ذو الـ66 عامًا، مبديًا عجزه عن التعبير عن غضبه من القرارات الأخيرة.
الجندي موظف سابق في وزارة التربية والتعليم، ويحصل حاليًا على معاش حوالي 3500 جنيه، ويستفيد من بطاقة تموين مسجل عليها ثلاثة أفراد؛ هو وزوجته وابنته.
بداية من الشهر الجديد سيضطر لدفع 90 جنيهًا شهريًا لبند الخبز بدلًا من نحو 22.5، وهو ما يراه مبلغًا كبيرًا بالنسبة لما يتبقى من راتبه شهريًا.
يقول الجندي "أنا والحاجة عندنا السكر والضغط، وبند الأدوية لوحده ممكن يوصل لـ500 جنيه، وإيجار الشقة 1000. كل دا ولسه لا دفعنا كهرباء ولا مياه ولا غاز، ولا أكلنا ولا شربنا".
يرى أستاذ العلوم السياسية مصطفى كامل السيد أن القمع قد يكون أيضًا من بين الأسباب التي أدت إلى عدم إعلان الاعتراض على القرارات، لكنه في الوقت ذاته يؤكد أن هدوء الشارع لا يعني عدم الغضب، مؤكدًا أن هناك أساليب أخرى للرد على مثل هذه القرارات "لكنها دائمًا ما تكون غير قانونية، حيث تزيد جرائم السرقة تجاه الممتلكات العامة، وأيضًا الخاصة".
يعيد إبراهيم حساباته لكي يتكيف مع زيادة بند الخبز، يقول بائع البطاطا إنه واحد من ملايين قد تؤثر قروش زائدة في حياتهم "فيه ناس كتير مش فارق معاها الجنيه، لكن فيه ناس أكتر الجنيه دا بيفرق معاها جدًا".