في 2005 تفجرت فضيحة "إجيبشيان ستايل" على هامش زيارة لورا بوش، سيدة أمريكا الأولى حينها، لمصر في ضيافة قرينتها، حينها، سوزان مبارك. فبعد تفقدها مدرسة "أم القرى" التي بنتها هيئة المعونة الأمريكية بالإسكندرية، تقدم نائب برلماني عن المحافظة بطلب تحقيق عاجل في ما نشر وقتها عن تلقي إدارة المدرسة وطلابها أوامر بالتزام منازلهم، واستبدالهم بطاقم تدريس وطلبة آخرون، لتقديم استعراض يليق بمكانة مصر، وليؤكدوا للمانحين أن أموالهم تستخدم على أكمل وجه.
وقال النائب في طلب التحقيق "يبدو أن هيئة المديرين والطلبة الأصليين للمدرسة لم تكن لتُرضي سيدة أمريكا الأولى، لأنها كانت سترى وجوهًا فقيرة تعاني من سوء التغذية. ولذلك قرر المسؤولون في الإدارة التعليمية استبدال مديرين وأطفال مظهرهم أفضل لكي يثبتوا أنهم استفادوا من المنحة الأمريكية التي تهدف لتحسين المدارس والنظام التعليمي".
حينها، كنت مراسلًا لصحيفة الأهرام في واشنطن، ولم أتمكن من نشر البيان المقتضب الذي أصدره مكتب لورا بوش في البيت الأبيض عبر السفارة الأمريكية في القاهرة.
تذكرت تلك الواقعة وأنا أتابع حوار الرئيس السيسي، أثناء زيارته الأخيرة لسوهاج، مع المواطن أحمد عنتر الذي يمتلك مصنعًا لإنتاج العلف. البلد كلها تئن من وطأة ارتفاع أسعار كل شيء، ولكن برزت تحديدًا مشكلة ارتفاع أسعار الدجاج والبيض بعد إعلان أصحاب مزارع الدواجن إعدام مليون كتكوت لعجزهم عن شراء العلف المستورد.
استخف وزير الزراعة سريعًا بتهديدات المنتجين ولجأ إلى الحجة التي باتت معهودة؛ هذه مؤامرة إخوانية، والفراخ تربطها صلة قرابة بحسن البنا وتتلقى أوامرها من داخل سجن العقرب حيث قيادات الإخوان. واك واك واك.. واك واك واك (كلمات كودية لا يفهمها سوى الدجاج).
وحتى عندما سمحت الحكومة بخروج مئات أطنان العلف من المواني مؤخرًا، لم تتراجع الأسعار، واتهم أصحاب المزارع المستوردين الذين يحتكرون استيراد العلف بتخزينه ليظل ثمنه مرتفعًا.
من المعروف أن اللحوم البيضاء بديل أرخص من الحمراء. ولكن في مصر، تجاوز كلاهما الفقراء الذين لا يحلمون بهما أساسًا سوى في الأعياد، بعد أن بلغ سعر الدجاج نحو 90 جنيهًا، لنتحدث عن فوائد رجول الدجاج وما تحتويه من بروتين بجانب الهياكل من رقاب وأجنحة.
وقف عنتر، المواطن صاحب المصنع، "انتباه" أمام الرئيس عبر الفيديو كونفرانس بجلبابه الصعيدي التقليدي، وأكد لسيادته أن "العلف رخيص" وأن الفضل في ذلك بالطبع يعود إلى "مبادرات سيادتك ودعمك لينا". أراد الرئيس بأسلوبه الخاص أن يؤكد للمشاهدين أنه يعرف حقيقة كل شيء، ولا يتأثر بالترتيبات الرسمية للزيارة التي يتم إعدادها بكل دقة قبل أيام وربما أسابيع.
"يا أحمد كلمني زي ما بكلمك كده. كلمني بدماغك وما تسمعش حد ولا الواقف قدامك بيبصلك. مبادرات إيه وبتاع إيه؟ هو إحنا لسه عملنا حاجة؟". أراد الرئيس إبلاغنا أنه يعرف بارتفاع سعر كرتونة البيض، "معلش نستحمل شوية"، وأنه مشغول بهموم المواطن البسيط، ولا يعتمد فقط على التقارير الرسمية الوردية.
ولكن تقاليد ترتيب الزيارات الرئاسية ممتدة على ما يبدو منذ زمن الفراعنة، والأجهزة المحيطة بالرئيس تتجنب دائمًا إثارة غضب سيادته إن ر أى ما لا يليق، وهو ما قد يترتب عليه توبيخهم أو مساءلتهم، وربما فقدان وظائفهم. هل يتصور أحد أن يزور الرئيس مستشفىً حكوميًا متسخًا ينام فيه المرضى "خلف خلاف"، وينتظر الفقراء بالعشرات في استقبال الطوارئ مصابين بجروح خطيرة بينما دماؤهم تنزف؟
حتى الأفلام السينمائية، كثيرًا ما أظهرت تقاليد الزيارات الرسمية المزيفة، حيث سفلتة الشوارع وتنظيفها ورص قصاري الورود طوال الطريق الذي سيمر فيه المسؤول، بداية من الوزير ونهاية بالرئيس، والتي سرعان ما تُزال فور انتهاء الزيارة. تربينا على صور "ما قبل" و"ما بعد" الزيارة في كل المواقع؛ مصانع، جامعات، أحياء جديدة أو قديمة بعد التجديد، وكذلك في سجن ليمان طرة قبل هدمه.
هل يصدق أي مواطن أن هناك ميكروباصًا يمكن أن يمر مصادفة بجوار موكب الرئيس؟
وأثناء زيارة الوفود للسجن، خاصة لو كانت تضم صحفيين أجانب، توزّع سترات جديدة مكوية على السجناء الذين سيمثلون دور الكومبارس. وكذلك "بدل" للمخبرين. كما تنتشر قصاري الزرع على طول المدخل ويعاد بسرعة الصاروخ طلاء واجهة المستشفى والأسوار.
أما المغضوب عليهم وغير الموثوق فيهم ممن يبقون داخل الزنازين فينالهم أيضًا من الحب جانب، ويكون نصيبهم من "بركة" الزيارة الرسمية وجبة لحم مطهوة جيدًا بالبصل بدلًا من تلك المسلوقة "نص سوا"، أما الأرز فيأتي شهيًا بالشعيرية بدلًا من المعجن غريب الرائحة.
ولأن هذه التقاليد معروفة للجميع، بما في ذلك الرئيس والمسؤول الكبير كما تبين من حوار السيسي مع عنتر، يبقى السؤال إذن لماذا يتم ترتيب مثل ذلك النوع من الزيارات أساسًا طالما كل الأمور مرتبة سلفًا، ولا يستطيع حتى الرئيس نفسه الخروج عن الخط المرسوم للزيارة لأسباب أمنية في الأساس؟ خاصة مع ارتفاع تكاليف ترتيبات الزيارة والتأمين في بلد يقر رئيسه بأننا "فقرا قوي".
عندما خلف الملك الأردني الشاب عبد الله والده الملك حسين، كان يتنكر في أزياء تقليدية ويركب سيارته الخاصة ليقوم بجولات تفقدية مفاجئة للمستشفيات والأسواق، وذلك ليقينه أنه لن يلتقي بمواطنين حقيقيين إذا اكتفى بالترتيبات الرسمية، واستمرت واستمرت هذه الزيارات حتى عام 2019، والأردنيون يتناقلون كثيرون بفرح كيف فوجئوا وهم في سياراتهم بالملك الراحل حسين، ثم عبد الله، يلوح بيده ويبتسم لهم في إشارة طريق.
هنا في مصر، ومع تصاعد الإرهاب في التسعينيات ومحاولة اغتيال مبارك ومسؤولين في نظامه بين 1990 و1997، كان رجال الأمن المدججين بالسلاح يشهرون مدافعهم من نوافذ السيارات المدرعة ويلوحون بها لأي سيارة تقترب منهم.
الرئيس في مصر يعرف، والمواطن يعرف أكثر، أن هناك عالمًا موازيًا يصاحب الزيارات الرسمية لا يمت للحقيقة بصلة، وسواء تعلق الأمر بدخول الرئيس المخلوع بيت مواطن بسيط فجأة لتناول كوب من الشاي ثم يتبين أن ذلك المواطن مخبر نظامي، أو بلقاء مفاجئ للرئيس السيسي بامرأة كادحة تقود ميكروباصًا، أو عائلة انتحارية مكونة من أربعة بينهم طفلين على متن موتوسيكل ليسألهم سيادته: مش عايزين أي حاجة؟ وغالبًا ما يكون الرد بإباء وشمم: لا يافندم. إحنا بس عاوزين ربنا يخليك لمصر.
هل يصدق أي مواطن مصري/ عربي أن هناك ميكروباصًا يمكن أن يمر مصادفة بجوار موكب الرئيس الذي تغلق كل الطرق التي سيرتادها قبل ساعات من وصوله في إطار إجراءات تأمين صارمة جدًا؟ كم مرة ضاع من وقتك ساعتين أو أكثر وأنت قابع في سيارتك بعد إطفاء محركها في انتظار مرور موكب الرئيس أو مسؤول كبير؟
وهناك مشكلة أخرى تواجه من يقررون محاورة الرئيس إذا لم يعجبه كلامهم. فهناك حوار "إنت مين إنت" عندما طالبه برلماني برفع الحد الأدنى للأجور، ومقولة "قبل ما تتكلم لازم تكون عارف أنت بتتكلم على إيه" أو "قبل ما تتكلم، مش لازم تعرف يعني إيه دولة؟".
وطالما هذا هو الحال، ربما يكون الصمت أفضل أو الالتزام بالنص المكتوب "من الراجل اللي بيبصلك" كما أشار الرئيس. وبالفعل العلف رخيص ونحن نعيش في رخاء ولم ترتفع الأسعار ولا زادت الديون، وتعويم الجنيه حتى فقد 60% من قيمته خلال تسعة شهور أمر حتمي سيترتب عليه لاحقًا استعادة الاقتصاد عافيته.
مصر الزيارات الرسمية عالم موازٍ لا نراه سوى في التليفزيون، وتلك الحقيقة يعرفها المواطنون، ويعرفها أكثر المسؤولون، كما تبين من حوار الرئيس مع المواطن أحمد عنتر في سوهاج. ولكن لن تتوقف الزيارات ولا الترتيبات، لأن الرسالة في العالم الموازي أن الحكومة تشعر بهموم المواطنين وتلتحم مع الشعب.