بمعزل عن السياسة وأزماتها وفي ظل تجاهل تام لهذا الملف المتخم بهموم لا تنتهي، واصلت السلطة في مصر محاولاتها لإنقاذ الاقتصاد الوطني من الانهيار، فتسارعت الخطوات الرسمية لتحرير أسعار الصرف، وملاحقة الديون وفوائدها، وتشجيع الاستثمار الأجنبي والمحلي على العمل عبر إعداد بيئة جاهزة وجاذبة.
بالتوازي مع تلك الخطوات نظمت الحكومة مؤتمرًا اقتصاديًا دعت إليه عددًا من الاقتصاديين والسياسيين لرسم ما يمكن تسميته "خريطة طريق" لمستقبل الاقتصاد المصري.
في الاطلاع الجاد على الأفكار الجديدة في الاقتصاد السياسي خلال السنوات الأخيرة، هناك ربط جاد بين النمو الاقتصادي والتطور الديمقراطي. وفي هذا التطور الذي يستند على قيم الشفافية وسيادة القانون وحرية التعبير والإعلام واستقلال القضاء، دعم كامل لنمو اقتصادي حقيقي وجاد، ومناخ مستقر وجاذب للاستثمار.
أما اللافت للنظر الذي يستحق الوقوف أمامه، ليس النشاط الذي تبذله الحكومة في الملف الاقتصادي، بل التصميم غير المفهوم وغير المعقول على الاشتباك مع هذا الملف، حتى الآن، في ظل جمود سياسي حاد يمتد منذ سبع سنوات، برعاية نفس الوجوه والأفكار والسياسات التي أثبتت التجارب فشلها في تحقيق نمو اقتصادي أو تطور ديمقراطي أو انفتاح سياسي.
بعيدًا عن الاقتصاد، وبتحليل دقيق فإن الجمود السياسي يبدو هو الخطر الأكبر على البلد وأهله، فالتسلط على السياسة وحصار الإعلام والفن والإبداع وتقييد المجال العام لا يمكن أن تبني استقرارًا أو تحقق سلامًا مجتمعيًا، والأكيد أنه سطح ساكن لنيران من الغضب المتقد تحت الرماد؛ لا يمكن احتواؤه إلا بحياة سياسية نشيطة، وانفتاح حر على كل الأفكار والبدائل التي تصنع قنوات آمنة لتصريف الغضب والانتقال للأمام، والتحول الجاد من وضع الخطر إلى وضع الاستقرار الحقيقي لا الجمود الذي تسميه السلطة ورجالها استقرارًا.
سياسيًا، وفي كل محاولات السلطة الحالية للخروج المحسوب والمقيد من حالة الجمود تأكيد جديد على نفس الحالة؛ فالحوار السياسي الذي دعا إليه رئيس الجمهورية على سبيل المثال ضاع في دهاليز الانتظار لأكثر من ستة أشهر، فلا قدّم جديدًا ولا ناقش قضية ولا فتح ملفًا، بل غرق في بيروقراطية اللجان والاجتماعات، وأغرق معه حماس كل من أمِل خيرًا في مستقبل مختلف عن السنوات التي مضت، حتى الميزة الوحيدة التي نتجت عنه -إخراج سجناء الرأي- شابتها عيوب وانتقادات، إذا ما اعتبرنا أن خروج نحو ألف سجين فقط من ضمن عشرات الآلاف، يخصم من رصيد الحوار بأكثر مما يضيف.
أما في الإعلام فقد رسخّت السلطة بشكل أكبر للجمود؛ الحديث نفسه يتشابه في كل المنصات الرسمية وإن اختلفت الوجوه، ومانشيتات الصحف أحيانًا تُصدر موحدة وكأنها من جهة واحدة.
في طريق كسر جمود السياسة لا يمكن بأي حل الإبقاء على الحكم الفردي المطلق، ولا ترسيخ لظاهرة المسؤول المقدس الذي لا يخطئ ولا يأتي الباطل من بين يديه
هذا الإعلام الذي افتقد المهنية والموضوعية وغرق في النفاق الرخيص، كرّس الجمود بعدما خسر جمهوره بالكامل وبات وكأنه يصرخ في الفضاء دون أن يسمعه أو يلتفت إليه أحد.
في الإبداع حدث ولا حرج، فالجمود يسيطر على الفن والدراما منذ سنوات مضت، الأفكار نفسها الوجوه ذاتها والشلل بعينها تسيطر على المشهد بالكامل، حدث هذا بعد أن سيطرت أجهزة ومؤسسات في الدولة على الإنتاج الفني، ووجهته لصالح أفكار محددة لا يمكن لأحد أن يتجاوزها، فعلت هذا في اللحظة التي منعت وقمعت كل من يحاول أن يخرج عن عباءتها وأفكارها وتصوراتها الباهتة عن الفن ودوره.
المؤكد أن مصر لا يمكن أن تحتمل بقاء الأوضاع السياسية الحالية كما هي بدون تغيير، فالسياسة هي التعبير الحقيقي عن المجتمع بأفكاره ورؤاه وتنوعه، ومصادرة جميع الأفكار والرؤى لصالح رؤية واحدة أمر محكوم عليه بالفشل أولًا، ثم إنها رهانات تحمل الخطر الحقيقي على المجتمع ذاته، فمصر بلد كبير وبه تنوع مذهل في رؤى أبنائه، وهو تنوع يصب في خانة قوة الدولة، بل يحفظ وحدتها وتماسكها إذا سُمح للجميع بالحق في التعبير، وقمع هذا التنوع لصالح "الأحادية" و"الشللية"، كارثة لا يجب أن تستمر.
أخطر ما يمكن الإشارة إليه الآن هو عدم شعور السلطة الحالية بأن تغييرًا سياسيًا واجتماعيًا كبيرًا حدث طوال السنوات العشر الفائتة، وأن أجيالًا قد تفتَّح وعيها على العالم بحضارته وقيمه الديمقراطية والإنسانية.
هذا الانفصال بين واقع يتغير وسلطة لا تدرك، أو تدرك وتتجاهل، فتصمم على ممارسة الحكم بالأدوات القديمة، وبالطريقة التي تجاوزها الزمن، وتتجاهل أجيالًا تطور وعيها بدرجة كبيرة، لا يبشر بالخير ولا يمكن أن يكون دافعًا للتقدم على أي مستوى.
في طريق كسر جمود السياسة لا يمكن بأي حل الإبقاء على الحكم الفردي المطلق، ولا ترسيخ لظاهرة المسؤول المقدَّس الذي لا يخطئ ولا يأتي الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تلك هي البداية إذا ما أردنا حماية هذا المجتمع من آثار جمود السياسة، وإذا قررنا أن ننتقل بأمان إلى نظام ديمقراطي يحترم التعددية والاختلاف، ويؤمن بالحرية واحترام حقوق الإنسان وتداول السلطة.
من حق المصريين أن يحلموا بكسر الجمود الحالي وببناء الدولة المدنية الديمقراطية، دولة ليس فيها تسلط على الآراء والأفكار، وليس فيها أحد فوق النقد والقانون والدستور، دولة تحترم الإنسان وحريته، وحقه في التعبير بكرامة، وبقيم العدالة والمساواة.
هذه ليست "الدولة الحلم" فقط، بل هي الدولة الوحيدة القادرة على الحياة والصمود والتقدم في زمن التواصل الاجتماعي والتقدم التكنولوجي الذي حول العالم إلى قرية كونية صغيرة، يستحق كل من فيها أن يعيش بعيدًا عن كل أنواع القهر أو المنع أو الاحتياج.