تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
يهدد ملف ترسيم الحدود البحرية التقارب المصري التركي والمصالحة بعد قطيعة استمرت أكثر من 10 سنوات

مصر وتركيا.. أقدام تتحرك حول لغم ترسيم الحدود البحرية

منشور الثلاثاء 16 كانون الأول/ديسمبر 2025

عاد ملف ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط إلى الواجهة من جديد، مع تجديد مصر واليونان طلبهما إلغاء اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة بين تركيا وحكومة طرابلس الموقعة في 2019. 

سبق لهذه الاتفاقية أن فجرت الخلافات المصرية التركية في إقليم شرق المتوسط عام 2019 حين وقّعتها أنقرة مع حكومة الوفاق الوطني الليبية بقيادة فايز السراج، ومقرها طرابلس، تحت مسمى مذكرة التفاهم لترسيم الحدود البحرية في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، دون الرجوع إلى مصر، وبعدها بأشهر أعلنت القاهرة تدشين منتدى غاز شرق المتوسط، الذي يضم قبرص واليونان وإسرائيل، متجاهلة تركيا وليبيا.

التحركات التركية والمصرية هي انعكاس واضح لموقف البلدين من الصراع الدائر في ليبيا منذ 2014، بين نفوذ الإخوان في طرابلس غرب البلاد، وخليفة حفتر في بني غازي شرق ليبيا، إذ تدعم أنقرة طرابلس وحكومتها المعترف بها أمميًا، بينما تدعم مصر حفتر والبرلمان الموالي له. 

ملف الحدود البحرية مع ليبيا في البحر المتوسط أخذ حيزًا من المناقشات التي أجراها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع قائد الجيش الليبي خليفة حفتر خلال زيارته للقاهرة الأسبوع الماضي، حيث أشار البيان الصادر عن الاجتماع إلى توافق الجانبين على أهمية استمرار التعاون المشترك بما يحقق مصلحة البلدين دون إحداث أي أضرار وفقًا لقواعد القانون الدولي.

خليفة حفتر في القاهرة

زيارة حفتر إلى القاهرة جاءت في وقت تصاعد فيه التوتر بين ليبيا واليونان على خلفية مطالبة رئيس البرلمان اليوناني خلال لقائه برئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح بإلغاء مذكرة التفاهم التركية الليبية المبرمة في 2019، بدعوى بطلانها وعدم قانونيتها، وهي تصريحات اعتبرتها ليبيا استفزازًا وتدخلًا في السيادة الوطنية.

منحت الاتفاقية التي أبرمتها أنقرة في 2019 مع حكومة فايز السراج السلطات التركية الحق في استكشاف الموارد الهيدروكربونية في أعماق البحر.

ومن جهتها اعتبرت القاهرة أن بعض القطاعات البحرية التي شملتها الاتفاقية الليبية التركية تدخل ضمن الامتداد الطبيعي لمنطقتها الاقتصادية الخالصة، وهو ما دفعها في 2022 إلى إعلان ترسيم حدودها الغربية البحرية في البحر المتوسط مع ليبيا من جانب واحد.

وسيطرت حالة من الهدوء على ملف ترسيم الحدود البحرية من بعد 2022، لكن الأزمة طفت إلى السطح مرة أخرى في يونيو/حزيران الماضي، حين أحالت الحكومة المكلفة من البرلمان الليبي في الشرق، اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا إلى مجلس النواب للمصادقة عليها، بعد تحسن العلاقات بين أنقرة وشرق ليبيا، وزيارات بلقاسم وصدام حفتر لتركيا، ولقائهما مع عدد من مسؤوليها، فضلًا عن انتهاء الخلافات بين مصر وتركيا التي شكّلت عقبة أمام النظر في المذكرة أو المصادقة عليها في السابق.

 كما وقعت مؤسسة النفط الوطنية الليبية في يونيو/حزيران الماضي أيضًا اتفاقية مع مؤسسة البترول التركية لإجراء دراسة جيولوجية وجيوفيزيائية في أربع مناطق بحرية في المياه الإقليمية الليبية.

إلا أن التحركات الليبية الأخيرة قوبلت باعتراضات يونانية ومصرية بالترتيب في مذكرات احتجاجية أمام الأمم المتحدة، حيث وصفتها أثينا بالاتفاقية غير القانونية وتحرمها من حقوقها البحرية والتنقيب فيها، كما عبرت القاهرة عن رفضها لتحركات ليبية لشرعنة التنقيب في مناطق تتداخل مع حدودها البحرية.

من هنا لا يمكن قراءة زيارة المشير خليفة حفتر الأخيرة إلى القاهرة بمعزل عن السياق الإقليمي المتشابك في شرق المتوسط، خصوصًا مع إعادة فتح ملف ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وجيرانها، حيث يدور النقاش داخل البرلمان الليبي والحكومة المنبثقة عنه في الشرق الليبي، مناطق سيطرة حفتر، بشأن اتفاقية ترسيم الحدود الموقعة بين أنقرة وطرابلس لدخولها حيز التنفيذ بتصديق البرلمان عليها.

التحركات المصرية

يرى محللون تحدثوا إلى المنصة أن مصر تسعى من وراء تحركاتها الأخيرة إلى تثبيت حدها البحري الغربي وتعزيز موقعها كمركز إقليمي للطاقة، في ظل اتفاقيات ترسيم الحدود مع اليونان وقبرص، وتعاظم اكتشافات آبار الغاز، وكذلك الاعتراض على أي امتداد ليبي–تركي يمس مصالحها.

التأكيد على رفض مصر المساس بحدودها البحرية الغربية وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 رسالة توافق عليها الرئيس المصري والمشير حفتر في الاجتماع الأخير، حسبما يوضح الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية كريم سعيد الذي أشار في تصريحاته لـ المنصة إلى وجود تحرك مصري ملموس مع الأطراف الليبية الفاعلة في هذا الشأن.

تصعيد القاهرة احتجاجها على التحركات الليبية في البحر المتوسط فيما يتعلق بمنح حقوق التنقيب لشركات تركية يعده سعيد جزءًا من استراتيجية تستهدف الدفاع عن الحقوق التاريخية وتفادي أي خطوات منفردة قد تربك الحسابات المصرية في شرق المتوسط.

أهداف تجارية تركية

من الزاوية الليبية، لا يُنظر إلى ترسيم الحدود البحرية كملف تقني أو قانوني فقط بل كملف سيادي طويل الأمد، فهي تدرك أن أي اتفاق يُوقع اليوم في ظل الانقسام السياسي قد يتحول غدًا إلى عبء قانوني ونقطة خلاف داخلية، لذلك يميل التفكير الليبي إلى التريث بدل الاندفاع وإدارة الوقت بدل حسم غير مضمون النتائج، هذا ما يذهب إليه المحلل السياسي الليبي خالد حجازي.

"رغم الجدل الواسع حول اتفاق 2019 مع تركيا، فإنه ما زال يمثل بالنسبة لحكومة طرابلس مظلة سياسية وأمنية يصعب التفريط فيها، خاصة في ظل هشاشة التوازنات الداخلية" يتحدث حجازي لـ المنصة، مشيرًا إلى أن ليبيا تتحرك في ملف ترسيم الحدود البحرية ضمن محددات معقدة، أبرزها غياب سلطة تنفيذية موحدة تمتلك شرعية داخلية وخارجية كاملة، واستمرار اعتماد بعض الأطراف الليبية على تحالفات إقليمية لضمان البقاء السياسي والأمني.

كما يعتقد حجازي أن حفتر يمتلك وزنًا سياسيًا وجغرافيًا بحكم سيطرته على شرق ليبيا وأجزاء من الساحل، إضافة إلى علاقته الوثيقة بالقاهرة، ما يجعله طرفًا مؤثرًا في توجيه الرسائل والضغط السياسي، لكنه في المقابل لا يملك الشرعية القانونية التي تخوله توقيع أو تعديل اتفاقيات دولية تتعلق بترسيم الحدود البحرية، كما أن أي تحرك أحادي من جانبه يصطدم مباشرة بعلاقة حكومة طرابلس الاستراتيجية مع أنقرة. 

أما الباحث مصطفى صلاح، مدير مركز الشمس للبحوث الاستراتيجية، فيعزو عودة الخلافات على شرق المتوسط إلى رغبة تركيا في إحياء اتفاقية ترسيم الحدود الموقعة 2019 لتعزيز مكاسبها الاقتصادية وخلق إطار سياسي مواجه للاتفاق المصري اليوناني القبرصي الذي تبلورت ملامحه بتدشين منتدى غاز شرق المتوسط في 2019، الذي يهدف لإنشاء سوق غاز إقليمي.

وتملك منطقة حوض المتوسط ثاني أكبر احتياطي من الغاز على مستوى العالم، ويقدر الاحتياطي في هذه المنطقة بـ300 تريليون قدم مكعب من الغاز، وتملك الدول أعضاء المنتدى احتياطيات تبلغ 162 تريليون قدم مكعب.

"المنتدى الذي يضم الأردن وإسرائيل وفلسطين من بين أهدافه تهميش الدور التركي وتقليص نفوذه في منطقة شرق المتوسط الغنية بالغاز، وعدم اعتراف تركيا باتفاقية تنظيم البحار يرجع لرفضها منح الجزر اليونانية الكثيرة حقوقًا كالدول في التنقيب بحدودها البحرية ما يجعل أنقرة حبيسة شواطئها في حال استمرار  الوضع الحالي" يضيف صلاح.

غير أن الباحث بمركز الأهرام كريم سعيد لا يستبعد انضمام تركيا إلى منتدى غاز المتوسط إذا قبلت بالحدود البحرية الغربية لمصر التي حددتها مصر وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لتنظيم البحار وحقوق اليونان البحرية. 

عودة التنافس المصري التركي

يؤشر الحراك الذي شهده ملف ترسيم الحدود البحرية مؤخرًا إلى أن صفحة التنافس بين مصر وتركيا لم تُطو إلى الأبد، حيث تبقى الملفات الخلافية عالقة في ظل تباين المصالح في ليبيا، وخلافات ترسيم الحدود البحرية، واستبعاد أنقرة من منتدى غاز شرق المتوسط الذي يتخذ من القاهرة مقرًا له. 

رغم التحسن الملحوظ في وتيرة تطبيع العلاقات المصرية - التركية خلال العامين الماضيين، الذي فرضته التطورات المرتبطة بحرب غزة وما تبعها من تداعيات، فإن الملف الليبي وترسيم الحدود البحرية يعدان من الخلافات المؤجلة التي لم ينضج فيها التفاهمات مفاتيح لحلها تتعلق بشكل إدارة الصراع في ليبيا والتوازنات الإقليمية، حسبما يوضح الباحث مصطفى صلاح، مدير مركز الشمس للبحوث الاستراتيجية.

يشير صلاح إلى أن القاهرة وأنقرة سعتا إلى حلحلة الكثير من الخلافات التي كانت سببًا في تجميد العلاقة الرسمية لعقد كامل وفي مقدمتها الموقف من جماعة الإخوان المسلمين بعد أن بدلت تركيا موقفها من دعم الجماعة وعناصرها الموجودة على أرضها وكذلك الأبواق الإعلامية التي تهاجم القاهرة، لتنتقل العلاقة تدريجيّا من منطق المواجهة والمعادلات الصفرية إلى مقاربة أكثر براجماتية لإدارة خلافاتهما.

وتتقاطع المصالح المصرية والتركية في أكثر من ملف، حيث قاد البلدان إلى جانب قطر والولايات المتحدة وساطة لوقف إطلاق النار في غزة لخفض التصعيد الإقليمي، كما تقف الحكومتان في خندق واحد مع الجيش السوداني في مواجهة قوات الدعم السريع، بينما تقف ليبيا حجر عثرة وساحة اختبار لمدى التفاهم وحجم الترتيبات حيث تتمسك مصر بتعريف الحدود البحرية وتفسير قانون البحار ويحاول الأتراك إعادة الترسيم بموجب الاتفاق السياسي مع حكومة طرابلس.

ويرى المحلل السياسي الليبي خالد حجازي أن التحسن النسبي في العلاقات المصرية - التركية لا يعني بالضرورة تراجع حدة الخلاف حول شرق المتوسط، حيث تتمسك مصر بترتيباتها البحرية مع اليونان وقبرص، وتسعى إلى منع أي اختراق تركي عبر البوابة الليبية، بينما تنظر تركيا إلى الاتفاق البحري مع ليبيا بوصفه ركيزة أساسية في استراتيجيتها لكسر العزلة المفروضة عليها في المتوسط، مضيفًا أن "التقارب الحالي بين القاهرة وأنقرة يبدو أقرب إلى إدارة الخلافات لا حلها، وهو ما يجعل ملف الترسيم قابلًا للاشتعال كلما تغيرت موازين القوى".

يستبعد الباحث بمركز الأهرام كريم سعيد بدوره أن تؤجج خلافات ترسيم الحدود البحرية التوتر بين القاهرة وأنقرة في المستقبل القريب وتعيدها إلى نقطة الصفر، من منطلق أن المصالح تتقاطع حينًا وتتعارض أحيانًا أخرى، خاصة مع زيادة التهديدات الإسرائيلية بالمنطقة وبروز الدور التركي في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، فضلًا عن وجود توافق على دعم مجلس السيادة في السودان بقيادة عبد الفتاح البرهان، وهو ما يفرض على الدولتين التصرف ببراجماتية في إدارة هذه الخلافات والبحث عن أرضية مشتركة.   

سيبقى ترسيم الحدود البحرية أحد أكثر الملفات تعقيدًا في المشهد الليبي، إذ تتداخل فيه الجغرافيا مع الصراع السياسي، وتتصارع حوله مصالح مصر وتركيا واليونان، وحتى تتجاوز ليبيا حالة الانقسام وتؤسس لسلطة موحدة قادرة على التفاوض من موقع قوة سيظل هذا الملف أداة ضغط إقليمية أكثر منه مسارًا واضحًا للتسوية، يختم خالد حجازي.