
راقصات وأمهات وهاربون من عُقدة زوزو
تأتي الذروة الدرامية في فيلم خلّي بالك من زوزو (1972) عبر المشهد الشهير الذي تواجه فيه زينب (زوزو)/سعاد حسني، انكشاف حقيقة مهنة أمها الأسطى نعيمة ألماظية/تحية كاريوكا في بيت عائلة خطيبها، باعتبار ما سوف يكون، سعيد/حسين فهمي ابن الحسب والنسب.
دُعيت زينب لزفاف أخت سعيد في منزل الأسرة، بعد أن رتبت نازك، ابنة زوجة أبيه، حضور أمها وفرقتها لإحياء الحفل، مشترطةً أن ترقص الأسطى نعيمة بنفسها بعد أن اعتزلت الرقص لسنوات بحكم السن، والأساس أن نازك كانت الخطيبة السابقة لسعيد قبل أن يُقرر فسخ الخطوبة بتأثير علاقته العاطفية الجديدة مع زوزو.
بُنيت المفارقةُ في الفيلم، الذي استوحى المخرج حسن الإمام فكرته من قصة الصحفية بهيرة مختار ابنة راقصة الأربعينيات الشهيرة نبوية مصطفى. على أن زوزو حرصت على إخفاء طبيعة عمل أمها عن زملائها في الجامعة وحبيبها سعيد حتى تشق طريقها بنجاح وسط مجتمع جديد لا يُسقط عليها نظرته لمهنة الراقصة، فتحمل دون ذنب وصمةً بذلت هي وأمها كل جهد للهروب من لعنتها.
إلا أن المواجهة بين البنت والأم في مشهد الزفاف، والشعور الذي جسدته نظرة سعاد حسني في ومضةٍ، بالفزع والإشفاق معًا، من فرط الظلم الذي وقع على الأم التي وجدت نفسها ضحية خدعة لا تفهم أبعادها، جعلت زينب تُدرك استحالة مسعاها للهروب من "أصلها"، وتُقرر -حسب أصول الكار- أن تُعيد لأمها مكانة الأسطى، وتؤدي نيابةً عنها رقصة الزفاف، بعدما حاربت مرارًا رغبة زوج أمها في أن تعمل مع الفرقة، ووافقتها الأم في ذلك.
لم تعتزل فيفي عبده الرقص كما جرت العادة مع التقدم في السن على العكس جددت من خلاله علاقتها بأجيال أصغر على السوشيال ميديا
لخَّص المشهد السؤال الفلسفي الاجتماعي للفيلم عن مدى تحكُّم "الأصل" في مسارات الحاضر والمستقبل. ومع تسليم العمل بالعار الاجتماعي المُلاحق لمهنة الراقصة، واقتراحه التعليم ومؤسسته الجامعية مكانًا ممكنًا للتحرر من حتميات الأصل والمصائر التي يُمليها، كانت مشاهده التي تدور داخل بيت نعيمة ألماظية مساحة لاستعراض علاقات المساندة التعويضية، التي تنسجها الراقصات وأعضاء الفرقة من موقعهن المنبوذ الذي يُدركنه جيدًا.
ظهر هذا الأمر بوضوح في مشهد محاولة الراقصة باتعة الانتحار بعد أن هجرها حبيبها مُذكِّرًا إياها بأنها من "العوالم" وعليها أن تعود إليهم، والذي استوعبته زوزو بوصفه "درس صغير كدا ع الماشي، علشان ما ننساش إحنا فين، ولا إحنا مين".
المفارقة الخيالية التي عاشتها زوزو، بين عالمين لا يعرف أحدهما شيئًا عن الآخر، قد تكون ممكنة لأبناء الراقصات محدودات الشهرة، لكن المفارقة الواقعية التي امتدت بين سيدات من ثلاثة أجيال، توارثن مهنة الرقص البلدي وحققن شهرة واسعة من خلالها، العظيمة تحية كاريوكا وفيفي عبده ودينا، تتجاوز الفيلم في سيناريو لم يصنعه الخيال، بين راقصات وأمهات وأبناء وبنات.
تحية وفيفي ودينا
قبل سنوات قليلة من وفاتها، تبنَّت تحية كاريوكا عطية الله ابنةً أوصت بانتقالها لرعاية فيفي عبده بعد وفاتها، وعاشت مع بنتيها اللتين اتجهت إحداهما لمجال التمثيل. كانت تحية كاريوكا التي لم تُنجب أبناءً اعتبرت فيفي أيضًا ابنةً من أبنائها الكثر، وصرّحت بمواقفها في مساندتها بعد ابتعادها عن الفن، إلى جانب الفنانين شادية وسمير صبري. وكانت فيفي تعيش دون تباهٍ أو إعلان علاقتها الخاصة بتحية التي تناديها "ماما".
لم تعتزل فيفي عبده الرقص البلدي كما جرت العادة مع كبر السن. على العكس، جددت من خلاله علاقتها بأجيال أصغر على السوشيال ميديا، عن طريق حسابها المليوني على تطبيق إنستجرام، حيث تبث فيديوهاتها ومرحها وحيويتها الجسدية والإنسانية بصورة متواصلة.
كما ظلت تُجدد فخرها بمهنتها وأمومتها معًا، وتستنكر في دهشة دعوات من يطالبونها باعتزال الفن الذي تحبه "أعتزل الرقص ليه؟ يعني أعتزل الحياة؟ دا الأكسجين اللي أنا باتنفس منه... ليه الأكسجين اللي باتنفسه أنتو عايزين تحرموني منه؟".
في عام 2014، واجهت فيفي عبده حملة هجومية على الإنترنت حين انتشر خبر عن تكريمها بلقب الأم المثالية في احتفال يقيمه نادي الطيران المصري في عيد الأم. وتكاثرت التعليقات التي تربط هذا التكريم بمرحلة "نكسة"، في إشارة للعداء الذي يُكنَّه المعلِّقون لمساندي نظام ما بعد 30 يونيو، أو التي تنعى الأمومة في مصر عندما تصبح الراقصات مثالها الأعلى.
تزامن هذا الهجوم الذي وقعت فيفي عبده في مرماه مع الربط الذي أُريد تأكيده بين السيدات اللاتي رقصن في لجان الانتخاب والحكم الجديد، بما يحمله الرقص البلدي من تاريخ طويل من الوصم والإقصاء وصب المهانة على الراقصات، ومن ثم إسقاط المهانة نفسها على النساء "المؤيدات" ومن يؤيدنه.
في المقابل، كتبت هنادي الديراوي، ابنة فيفي عبده عبر صفحتها على فيسبوك، "أوجه الشكر لكل من كتب كلمة طيبة عن أمي وأقول لكل من له اعتراض أدعو الله أن يُبقي لكم أمهاتكم ويحفظهن لكم، وأتمنى أن تكون أمهاتكم قد ربتكم مثلما ربتنا أمنا".
مدرسة دينا
مؤخرًا، افتتحت الراقصة دينا مدرستها لتعليم الرقص الشرقي في القاهرة، التي تتضمن كذلك فصولًا لتعليم تخصصات فنية متعددة.
المعروف أن دينا تمتلك رصيدًا متراكمًا مُدرِّبةً للرقص الشرقي في مدارس وورش مماثلة حول العالم، كما مكّنها نشاطها في هذا المجال واتصالها بدوائر المهتمين بالرقص الشرقي عالميًا من توسيع دوائر معجبيها، والناظرين لها كمُجدِّدة لها إضافات وأسلوب خاص، على مستوى الحركة والأزياء والأداء.
افتتحت دينا مدرستها في القاهرة بحضور أستاذتها راقية حسن، المُدربة الشهيرة للرقص الشرقي في فرقة رضا التي بدأت دينا الرقص فيها في عمر تسع سنوات، كما درَّبت العديد من الراقصات الشهيرات مثل عزة شريف وفيفي عبده. خلال حفل الافتتاح وصفت راقية حسن دينا بأنها ابنتها، ووصفت ما فعلته بأنه نجاح في عمل شديد الصعوبة في بلدنا.
خلال أيام اتضح معنى الصعوبة التي قصدتها، إذ تقدّم أحد المحامين ببلاغ رسمي إلى النائب العام ضد دينا، معتبرًا أن خطوة افتتاح المدرسة تمثل "تشجيعًا على نشر الفسق والفجور" وإساءة مباشرة للقيم والعادات المجتمعية الراسخة، كما أعلنت نائبة برلمانية اعتزامها تقديم طلب إحاطة لرئيس مجلس النواب يدعو لإغلاق أكاديمية دينا لتعليم الرقص الشرقي في مصر.
أما الترند الأبرز فكان حضور "علي" ابن دينا لحفل الافتتاح، وحرصه الواثق على تشجيع أمه في الخطوة التي أقدمت عليها، الذي ظهر من خلال حوارات قصيرة أجراها، قوبلت بالتعليقات المتوقعة؛ التي تُشكك في رجولته، والتي تطعن في شرف أمه.
في حالة دينا تظهر مسافة أوسع كثيرًا مع عالم زوزو، إذ تنحدر من أسرة تنتمي للطبقة المتوسطة العليا على عكس معظم الراقصات المُحترفات تاريخيًّا، وتقرر رغم رفض أهلها احتراف الرقص، بعد حصولها على الشهادة الجامعية. وبالمثل هي المسافة التي يقفها علي، ابنها، من الأغلبية الساحقة من الذكور الذين تنتشر تعليقاتهم على السوشيال ميديا، والذين نعرفهم ونعيش بينهم، ومن زوزو التي طاردتها مهنة أمها وأفسدت عليها حياتها.
متلازمة الساحرات
في كل الحالات السابقة، التي تبادلت فيها الراقصات وأمهاتهن وبناتهن وأبناؤهن الرعاية والمساندة، بصرف النظر عن روابط الدم، كانت أجيال متوالية تقطع خطوات نحو التحرر من الفصام بين مهنة الراقصة وأمومتها. والأمومة هنا رمز استحقاق للأهلية الاجتماعية، التي يُسقطها المجتمع عن المرأة وفق سلسلة من الأحكام المُهندَسة على خريطة متشابكة من المعايير الطبقية والدينية والأخلاقية، يقع في مركزها ما يتعلق بحدود حركة الجسد الأنثوي في المجتمع، وحدود حق المرأة في جسدها، المسموح له والممنوع عليه.
شُبّهت راقصات فرقة "عوالم خفية" براقصات عشتار آلهة الحرب والدمار التي تُغري ضحاياها قبل قتلهم
تختبر الراقصة غالبًا أقسى درجات تلك المعايير، نتيجة تحكمها في جسدها أداءً وجماليةً واستعراضًا وإغواءً، وحياتها الصعبة التي تخوضها مجرّدة من السند العائلي والاجتماعي، ومن أقنعة التماهي مع الأخلاق السائدة التي ترى في الأمومة جواز عبور للقبول الاجتماعي، تُسلب المرأة بموجبه حقها في جسدها وجنسانيتها.
تحقير الراقصات إحدى أدوات تكريس صورة مهيمنة عن الأنوثة المرغوبة في المجتمع، ومُعبِّر عن التلقي الذكوري المتناقض تاريخيًّا لهذا الفن، إذ يمثّل الرجال جمهوره الأوسع وأعداءه الأشرّ في الوقت نفسه. والصورة المُراد تكريسها للراقصة تكتمل بشيطنتها وتقبيح سلوكها (ومظهرها)، ما يجعلها النقيض لصورة المرأة الأم المرضي عنها، بحيث يستحيل عليها -وفق تلك النظرة- الجمع بين الصورتين.
وهن كذلك التمثيل الأقصى الذي تجد فيه نزعات "الفحولة القومية المتطرفة" تفريغًا لعدائيتها، في سعيها للسيطرة على حركة التكتلات الاجتماعية، والصياغة الأحادية للأجساد والأفكار.
شيء من هذا طرحته هجمة أخرى، من معسكر رجعي آخر، حين شُبّهت راقصات فرقة عوالم خفية بسبب احتفال الفرقة مع علاء عبد الفتاح بخروجه بعد عفو رئاسي بـ"راقصات عشتار إلهة الحرب والدمار، التي تُغري ضحاياها بطقوس راقصة، ثم تقتلهم بعد تغييبهم قربانًا لربها الشيطان".
في عدد من صفحات القوميين الجدد انتشرت هذه الرسالة الهلوسية بالصيغة نفسها، واستعار من صاغها ملامح العداء العنصري للنساء في القرون الوسطى، من ذكر النساء المتهتكات، الممسوسات من الشيطان، الذي لجأن إليه وضُللن بوهمه وإغواءاته.
لطالما خدمت الأسطورة و"متلازمة السحر والساحرات" غرض شيطنة النساء، وتحويلهن كبش فداء في وقت أزمات اجتماعية عميقة، مع باقي الفئات المحرومة من الحماية الاجتماعية، والأعراق والطوائف الأقليَّة، والفئات المشتبه في خروجها عن القواعد الراسخة للنظام الاجتماعي الأبوي.
في مواجهة الكراهية
كانت الهجمات النقدية على فيلم خلي بالك من زوزو نموذجًا لمزاج قومي رجعي من النوع نفسه، اتشح برداء الوطنية في سنوات ما بعد هزيمة 1967، حيث انهال الكاتب يوسف إدريس والناقد سامي السلاموني وغيرهما بالهجوم على صلاح جاهين لأنه يكتب السيناريو والحوار لقصة حسن الإمام، المغرم بقصص الراقصات والعوالم، ويتجه للإلهاء والترفيه والمشاركة في تغييب وعي الجمهور في فترة تحتاج إلى تعبئته.
إلا أن الانتباه للغة المقالات المكتوبة يلفت أنظارنا للاستفزاز الشديد الذي شعر به الكاتبان بسبب الربط بين الراقصات ومفاهيم إيجابية مثل الشرف والاجتهاد والطموح للارتقاء الاجتماعي، ما يُهدد في نظر إدريس بتحويل المجتمع كله "إلى مدرسةٍ كبيرةٍ لتخريج الجواري والعالمات والمومسات. وهكذا يتم للأستاذ حسن الإمام حلمه، وتتحوَّل مصر جميعًا إلى شارع محمد علي".
التواصل بين الأجيال الذي حمته ثلاث نجمات للرقص البلدي، لا يوازيه تواصل لمسيرة مهنتهن نفسها في البلد الذي تبلور فيه طابعها الحديث، حيث يسيطر على سوقها المصرية راقصات أجنبيات، بعدما انتهى شارع محمد علي، واستبعدت المُحافظة الاجتماعية والدينية الصاعدة منذ سبعينيات القرن العشرين مشاركة الراقصات في المناسبات الاجتماعية للعائلات المصرية، ثم تناقص حضور الرقص البلدي في وسائط الإعلام والفنون المصرية تدريجيًّا.
تعليقًا على الهجوم المُتشنِّج الذي تواجهه، تقول دينا إنها تحمي "فننا اللي بيتسحب مننا"، بينما ينتشر في أنحاء مختلفة في العالم، إضافة للتدريب على أنواع متعددة من الرقصات الشعبية المندثرة والرقصات العالمية والرقص العلاجي. وهي تعتقد في الوقت نفسه أن ظهور راقصة جديدة أمر في غاية الصعوبة، ولها حق، لأن البيئة التي بدأ منها تاريخ الرقص البلدي الحديث في مصر، مع الرائدة بديعة مصابني، تلاشت آثارها تقريبًا، في المجتمع والشوارع والحواضن الثقافية التي أثرت الصناعة الفنية برؤى متحررة في فنون الأداء والاستعراض.
عوضًا عن الأمومة الأوديبية البطريركية التي تحمل رايتها البلاغات والدعاوى البرلمانية الحقودة والحملات الإلكترونية المنظمة، والربط الشرطي الذي يروجه مهنيون وبرلمانيون وخريجو مدارس عن البلد الذي تنجح فيه الراقصات ويفشل العُلماء، فضلًا عمن يلقون بهن في النار ليلًا ونهارًا تقرُّبًا لله، يتحول الإيثار الأمومي في قصة تحية وفيفي ودينا، وأولادهم وأمهاتهم، لرمزية مصالحة بين الأنوثة والأمومة، تواجه العداء بالتضامن والعطاء والحنان، كما تحولت زوزو في لحظة انكشاف وجه الظلم أمًّا لأمها.