تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
مع انخفاض قيمة الجنيه ارتفعت أسعار الفائدة ما حال دون قدرة الكثيرين على الاقتراض، يونيو 2024

الفائدة من رفع الفائدة

منشور الاثنين 15 أيلول/سبتمبر 2025

بنهاية الشهر الماضي، تكون لجنة السياسات النقدية خفضتْ أسعار الفائدة على معاملات البنك المركزي بنسبة إجمالية 5.25% منذ بداية العام، وهو خفض كبير يدشّن على الأرجح بداية جدية للخروج من دائرة الفوائد المرتفعة التي بدأناها قبل عامين، ويتزامن ذلك مع قرب انتهاء برنامج قرض صندوق النقد الدولي الذي بدأناه في 2022.

ربما نجحت السياسات التي يوصي بها الصندوق بشأن رفع الفائدة في كبح التضخم الذي بلغ ذروته في أكتوبر/تشرين الأول 2023 عند أكثر من 40%، ويتحرك الآن في نطاق تحت الـ20%. لكنَّ لهذه السياسة وجهًا آخرَ يتعلق بخسائر الاقتصاد من ارتفاع تكلفة التمويل، تحديدًا عجز القطاع الصناعي بوصفه أكثر القطاعات قدرة على التشغيل ودفع النمو.

إحصاء خسائر القطاع الصناعي من رفع الفائدة مع قرب انتهاء برنامج الصندوق في 2026 ربما يدفعنا لإعادة النظر في جدوى سياسات الصندوق النقدية.

كيف تأثرت الصناعة في مصر؟

الاستثمار في القطاع الصناعي مسألةٌ مهمةٌ للاقتصاد بأكمله؛ فالتمويل الذي تقترضه شركة صناعية من البنك لإنشاء خط إنتاج جديد، يعود في المستقبل على الاقتصاد بقيمة كبيرة، لأنه يوفر وظائف مستدامة ويشجع على إنشاء صناعات مكملة لدى شركات أخرى.

لا توجد لدينا مؤشراتٌ تحدِّد بدقةٍ حجم الاستثمار الصناعي في مصر على مدى زمني طويل، لكن يمكننا الاعتماد على مؤشر إجمالي التكوين الرأسمالي للقطاع الخاص الصادر عن البنك الدولي، الذي يقدر حجم الأصول الموجودة من مصانع وماكينات ومعدات وأعمال الإنشائية. باختصار؛ المكون الرأسمالي هو المكون المُنتِج في اقتصادنا، الذي سيولد لنا قيمةً تغطي احتياجات السنوات المقبلة.

وكما يظهر من الشكل التالي، فقد واجه هذا المؤشر عند حسابه كنسبة من الناتج الإجمالي انخفاضين كبيرين تزامنا مع ارتفاع أسعار الفائدة، ما يعكس الأثر السلبي لارتفاع تكلفة التمويل على الاستثمار.

قد يدفع البعض بأن الفائدة الحقيقية (أي بعد أخذ التضخم في الحسبان) كانت منخفضةً أو سلبيةً خلال السنوات الأخيرة، بالتالي لم تتأثر الشركاتُ بارتفاع القيمة الاسمية للفائدة، لكن هذا الافتراض لا يأخذ في اعتباره انعكاس الفائدة الاسمية على بيئة الأعمال، التي قد تدفع بعض الشركات لتأجيل خططها الاستثمارية كما يظهر من تعليقات رجال الأعمال في مصر  التي سنعرضها في فقرة تالية.

https://public.flourish.studio/visualisation/25023417/

المفارقة أن موجتي انخفاض المكون الرأسمالي تزامنتا مع موجتين كبيرتين من تدخل صندوق النقد الدولي في مصر؛ بين الإصلاح الهيكلي في التسعينيات، واتفاق القرض الأخير في 2022.

يؤثر انخفاض الاستثمارات على قطاع مهم مثل الصناعة، الذي كثيرًا ما يكون المساهم الأكبر في معدل نمو الناتج الإجمالي للاقتصاد، ويُشغِّل نحو 3.5 مليون عامل، وحتى الآن لم نرَ دراسةً تحدد بدقةٍ أسباب انخفاض المكوِّن الرأسمالي، ومدى ارتباط ذلك بزيادة الفائدة في مصر. لكن دراسات أخرى ربطت بين هذين المتغيرين في بلدان نامية أخرى، وحذرت من مخاطر ارتفاع تكاليف التمويل على الاقتصاد.

كما أنَّ بإمكاننا أن نستشفَّ أثر السياسة النقدية على الاستثمار من تصريحات العديد من رجال الصناعة والأعمال خلال الأشهر الماضية. على سبيل المثال تحدث رئيس شركة إيديتا أكثر من مرة العام الماضي عن أثر ارتفاع تكلفة التمويل على إحباط خطط الاستثمار. وقبل نحو ثماني سنوات أطلق رئيس اتحاد الصناعات تحذيرات مماثلة، عندما بدأ في رفع أسعار الفائدة بشكل لافت للنظر، بينما تساءل نجيب ساويرس عن تحميل المستثمر فائدة 30% وهو غير قادر على تحقيق ربح بالنسبة نفسها؟

هذه الانتقادات المتكررة تدفعنا للبحث في الأسباب التي يوصي من أجلها صندوق النقد برفع الفائدة، وما قد يبرِّر للسلطات في مصر اتباع هذه التوصيات رغم آثارها السلبية الكبيرة.

ما وراء رفع الفائدة

الواقع أن صندوق النقد لا يعتبر زيادة الفائدة هدفًا في حد ذاته، كما أن البنك المركزي لا يملكُ سلطة فرض سعر معين للفائدة على البنوك. أي أن كليهما، نظريًا وللوهلة الأولى، بريء من زيادة الفائدة خلال الفترة الماضية.

لكنَّ الحقيقةَ عكس ذلك؛ يتبنى البنك المركزي سياسة استهداف التضخم، ويحدد رقمًا معتدلًا للتضخم في أسعار السلع والخدمات في الاقتصاد المصري، ويتطلع للوصول إليه من خلال سعر العائد على المعاملات التي يقوم بها مع باقي البنوك. إذا وجد التضخم مرتفعًا يرفع الفائدة لامتصاص السيولة، ومن ثَمَّ الحد من الضغوط التضخمية، ويؤثر المركزي في أداء باقي البنوك باعتباره مقرض الملاذ الأخير لهذا القطاع.

خلال السنوات الأخيرة، كانت التعويمات العنيفة والمتكررة للجنيه دافعًا رئيسيًا للتضخم. وفي خضم هذه الأحداث كان الصندوق يشدد على ضرورة ترك سعر الصرف حرًا للعرض والطلب، واتباع سياسة استهداف للتضخم مصاحبةً له. يعني ذلك ببساطة شهورًا طويلةً من الفائدة بالغة الارتفاع، حتى يتم امتصاص الأثر القوي للتعويم على التضخم.

https://public.flourish.studio/visualisation/25024034/

وكما يظهر من الرسم التالي، شهدت فترة ارتفاع أسعار الفائدة تذبذبًا عنيفًا في معدل نمو ناتج القطاع الصناعي، الذي سجل بدوره انكماشين هما الأكبر في تاريخه وفق سلسلة بيانات وزارة التخطيط التي تبدأ من 2003. ولا تظهر سابقةٌ لانكماش القطاع الصناعي إلا في السنة التالية للأزمة المالية العالمية، وكانت أقل حدة.

تزامنت فترة ارتفاع الفائدة مع متغيرين مهمين يمكن اعتبارهما من أسباب هذا الانكماش القوي في أداء القطاع؛ الأول هو انخفاض نصيب الصناعة من إجمالي الائتمان الممنوح للبنوك، وهو رقمٌ قد يخفي وراءه العديدَ من القصص عن شركات عاجزة عن الحصول على سيولة لتمويل مشتريات للمواد الخام أو إجراء توسعات ضرورية لدعم الإنتاج.

https://public.flourish.studio/visualisation/25081240/

أما المتغير الثاني، فهو الارتفاع الكبير واللافت في استثمارات القطاع الصناعي في أذون الخزانة. يعني ذلك ببساطةٍ أن الشركات بدلًا من أن توجه فوائضها المالية لاستثمارات إنتاجية كانت تحاول تخفيف عبء ارتفاع تكاليف التمويل من خلال الاستثمار في الديون بعائد مرتفع. هكذا تتحول شركةٌ صناعيةٌ إلى مستثمر مالي في الديون.

https://public.flourish.studio/visualisation/25025029/

قد يدافع البعض عن الصندوق بقوله إن التعويمَ كان ضرورةً لمنع المزيد من التدهور في موازيننا الخارجية، والرد على ذلك هو أن توصيات الصندوق كانت السببَ في هذا التدهور من البداية، وارتبطت كل موجات التعويم بعمليات خروج كبيرة للاستثمارات الساخنة من القطاع المالي، والصندوق كان من أشد داعمي حرية حركة رؤوس الأموال في مصر.

كما يحذر باحثون مثل أسامة دياب من الاعتماد المفرط على السياسة النقدية لتخفيض التضخم؛ لأسباب عدة تتعلق بطبيعة الاقتصاد المصري، على سبيل المثال يقول "بالنسبة للسلع الأساسية، تحديدًا الطعام، فلن تنجح أسعار الفائدة المرتفعة في السيطرة على أسعارها لأن الناس ببساطة لن تكف عن الأكل والشرب لمجرد ظهور فرص استثمارية ذات عائد ثابت جيد".

الأهم من كل ذلك أن محاولة البنك المركزي معالجة بعض مشكلات ارتفاع الفائدة، أجهضها صندوق النقد.

القروض المدعمة

كما أشرنا من قبل، مع بدء سياسة الفائدة المرتفعة في 2017 تصاعدت الشكاوى من عبء تكلفة التمويل، في هذا السياق أطلق البنك المركزي في 2019 مبادرةً لتمويل المشروعات الصناعية بفائدة 10% متناقصة، تم خفضها في 2020 بالتزامن مع تداعيات وباء كورونا إلى 8% متناقصة.

وتمثل هذه السياسة امتدادًا لمبادرة أطلقها البنك المركزي في 2016 لتحفيز البنوك على تمويل المشروعات الصغيرة بفائدة 5%، وتوسعت لاحقًا لتشمل أنشطة أخرى مثل الزراعة والسياحة والمقاولات والتمويل العقاري، وكانت غالبية هذه المبادرات تُموَّل من البنك المركزي، فهو يدفع للبنك مقدمِّ القرض فرق السعر بين الفائدة المنخفضة وسعر الفائدة في السوق.

في 2022 أعلن البنك المركزي عن وقف أغلب هذه المبادرات استجابةً لشروط صندوق النقد حتى يستطيع إبرام اتفاق القرض الذي لا يزال ساريًا حتى وقتنا الراهن، وعليه انتقلت مسؤولية دعم القروض من المركزي إلى وزارة المالية.

هذا التحول كان يعني الكثير لرجال الصناعة؛ من ناحية كانت وزارة المالية أكثر تشددًا في تحديد سعر الفائدة المدعمة، لتصل في المبادرة الجديدة إلى 15%، كما كانت شديدة التباطؤ في تنفيذها، فقد بدأت تتحدث عنها في مارس/آذار 2024 وأطلقتها رسميًا في ديسمبر/كانون الثاني من العام نفسه. ووفق مصادر تحدثت إليها المنصة في وقت سابق، فإن البنوك لم تضخ التمويلات حتى الوقت الراهن بسبب شروط متشددة في منح القروض.

هذا إلى جانب تواضع حجم التمويل المخصص للمبادرة، 30 مليار جنيه، ما يجعل الحد الأقصى لتمويل العميل الواحد يقتصر على 75 مليون جنيه، وبينما تستهدف المبادرة دعم صناعات محددة مثل ألبان الأطفال، يتساءل إبراهيم عزت، رئيس إحدى الشركات العاملة في هذا المجال، في حديث سابق لـ المنصة عن جدوى المبادرة بينما لا يكفي المبلغ لشراء قطع غيار مصنع ألبان؟

هذا الشح في التمويل يعود بطبيعة الحال للضغط الواقع على وزارة المالية، فهي ملزمة بتحقيق معدلات فائض أولي مبهرة تقنع الصندوق بأنها ناجحة في التقشف والتدبير، حتى ولو على حساب النمو الاقتصادي.

سينتهي البرنامج الحالي للصندوق في 2026، ليتركنا أمام تناقضات صنعها بنفسه، وأمامنا فرصة للتحرر من هذه التصورات ووضع سياسة جديدة تمنح الصناعة أولوية على كل الحسابات الأخرى، فهو القطاع القادر على إنقاذنا من أي أزمات قادمة تجعلنا نحتاج للصندوق مجددًا.