الأسبوع الماضي، سألتنا الزميلة نورا يونس رئيسة تحرير المنصة عمَّا يمكن أن نكتبه في ذكرى ثورة يناير، فبادر بعض الزملاء باقتراح رصد التحولات الاقتصادية والمجتمعية بعد مرور ما يقرب من عقد ونصف العقد على الثورة؛ مثل تَراجُع قيمة الجنيه وارتفاع معدلات التضخم والفقر وغيرها.
عن نفسي، رأيت أن ما مرَّ على الثورة لم يكن فقط سنوات نُحصي ما جرى فيها للاقتصاد والناس، إذ تغيَّر السياق المحيط بمسألة العدالة الاجتماعية تمامًا؛ فلا الدولة "ترى" دورها الاجتماعي، كما كان من قبل، ولا المواطن "يتوقع" من الدولة ما كان يأمله منها عندما قام بالثورة.
ازدهرت تصورات الخلاص الفردي في مقابل تراجع حلم التغيير الجماعي
في هذا المقال، أجادل بأن ثمة عملية تسليع واسعة جرت خلال السنوات الأخيرة، أدت لانهيار العقد الاجتماعي الذي نشأت على أساسه تصوراتنا السياسية وقت الثورة. كما ازدهرت تصورات الخلاص الفردي في مقابل تراجع حلم التغيير الجماعي الذي كان يسيطر علينا في 2011. لا أهدف من هذا الطرح إلى الدعوة للتخلي عن السعي نحو العدالة الاجتماعية، بل أدعو إلى إعادة تعريف أدوات تحقيق هذه العدالة بمعطيات الوقت الراهن.
تعريف خالد صالح لدور الدولة الاجتماعي
منذ أن شاهدت فيلم عمارة يعقوبيان في سينما أوديون سنة 2006، لا يكف ذهني عن استدعاء مشهد شخصية كمال الفولي، الذي يُفترض أنه قيادي كبير في الحزب الحاكم آنذاك، وهو يشرح كيف تسيطر الدولة على الرأي العام بقوله إن "الشعب المصري كله ماسك في إيدين الحكومة كأنها أمه اللي خلفته".
ربما يعود تأثري بهذا المشهد إلى أنني آنذاك، في مطلع العشرينات من عمري، كنت قرأت لتوي كتاب الباحث الاقتصادي والأكاديمي الراحل سامر سليمان النظام القوي والدولة الضعيفة، الذي كان مشغولًا فيه تقريبًا بنفس ما يشغل وحيد حامد وهو يكتب هذا المشهد، أي ما هي الأدوات الناعمة التي تملكها الدولة لكي تسيطر على الرأي العام بصورة تجعله أشبه بطفل يتبع أمه؟
مشروع سليمان كان محاولةً لإجابة هذا السؤال من تحليل بيانات الموازنة العامة، فقد ألَّف هذا الكتاب بعد عقود من ترسّخ سياسات الرفاه الناصرية في مصر، التي كانت تُستخدم لاسترضاء الرأي العام عبر مبادلة الحماية الاجتماعية بالديمقراطية. ويرصد سليمان في كتابه كيف استمرت سياسات الإنفاق العام في خدمة العقد الاجتماعي القديم.
واحد من الأسئلة التي شغلت سليمان، كان محاولة فهم لماذا غضب الناس بشدة من الخفض المحدود في دعم الغذاء في السبعينيات، الذي عبّرت عنه انتفاضة الخبز 1977، بينما قبلوا انكماش هذا الدعم في التسعينيات تحت ضغوط برنامج الإصلاح الاقتصادي.
العالم القديم مات بالفعل، لكن الجديد لم يكن ما حلمنا به
دفع سليمان في كتابه بأن الدولة نجحت في استرضاء الرأي العام بإنفاق قوي على الأجور الحكومية، أو ما يعرف بنداء "المنحة يا ريس"(*). أي أن ما جرى كان أقرب لاستبدال أشكال الإنفاق، لتتمكن الدولة من الحفاظ على علاقتها بالمواطن وفي الوقت نفسه على رضا صندوق النقد الدولي.
هكذا كانت الصورة قبل ثورة يناير، أشبه بالتعبير البلاغي الشهير للفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي، بأن العالم القديم يموت والجديد لم يولد بعد. لكن بعد الثورة تغيرت الصورة بشكل يدعونا لأن نقول إن العالم القديم مات بالفعل، لكن الجديد لم يكن ما حلمنا به.
النيوليبرالية تعيد تعريف دور الدولة
تشير العديد من الدراسات التي أجريت على تحولات السياسات الاجتماعية بعد ثورة يناير في مصر، إلى أن واقع المواطنين صار أسوأ من ذي قبل، خاصة الفئات المهمشة، ويكفي أن ننظر إلى مستويات الفقر التي باتت تغطي ما يقرب من ثلث المواطنين على أقل تقدير، أو إلى معدلات التضخم غير المسبوقة التي تجعل قطاعات واسعة من الطبقات الوسطى تشعر بعدم الاستقرار طوال الوقت.
صار بإمكان الحكومة أن ترد على شعار مثل "عاوز اشتغل يا كبير" بأن دورها في التوظيف صار محدودًا
هذا التردي في الأحوال جاء مصحوبًا بتغيرات عميقة في دور الدولة الاجتماعي، إذ توقفت خلال السنوات التالية للثورة عن لعب دورها "الأمومي" تجاه المواطنين، واستطاعت وهي تُجري هذا التحول، أن تحافظ على استقرار الشارع. لا شك أن للحضور الأمني القوي في المجال العام وانغلاق المجال السياسي لسنوات دورًا في ذلك، لكنه لم يكن العامل الوحيد.
بدأت مصر منذ تسعينيات القرن الماضي في التحول نحو منح القطاع الخاص مساحةً أكبر من الاقتصاد، ما يُعرف بالسياسات النيوليبرالية، وهي السياسة التي اتخذت دفعة أكبر خلال السنوات الأخيرة، لذا صار بإمكان الحكومة أن ترد على شعارات مثل "عاوز اشتغل يا كبير"، بأن دورها في التوظيف صار محدودًا في مقابل القطاع الخاص. أو أن تُلقي باللوم في ارتفاع الأسعار على شروط صندوق النقد، وتتظاهر بأنها تحاول حمايتنا منه، وتخيفنا من مصائر أسوأ إذا تخلّت عن مسارها الحالي.
ولنفهم أكثر طبيعة الفخ الذي سقطنا فيه، نحتاج لأن نُلقي نظرة على دولة الرفاه القديمة.
السياسة القديمة للحد من التسليع
خلال العقود الأولى من القرن الماضي، ساد نموذج دولة الرفاه القديمة المعتمد على الحد من التسليع/decomodification، وهو اصطلاح من العلوم الاجتماعية يشير إلى تحويل الدولة بعض المنافع مثل السكن والمواصلات والطعام وغيرها من سلعٍ لا يحصل عليها إلا من يدفع ثمنها، إلى لا سلعة، أي حق مكتسب مجاني أو بسعر رمزي، يحصل عليه كل فرد في المجتمع لمجرد أنه مواطن.
تحت هذه السياسة تصبح الدولة هي الفاعل الاقتصادي الأساسي، فهي المشتري والمنتج الرئيسي للسلع، وحتى إن سمحت بوجود القطاع الخاص فهي تحد من تأثيره، ليس فقط عبر مزاحمته في ميادين الإنتاج فحسب، لكن لأنها أيضًا تُسعر السلعة أو الخدمة بسعر متدنٍ لضمان إتاحتها للجميع.
ساهمت العديد من الأسباب السياسية والاقتصادية خلال تلك الفترة، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، في تحويل هذا التصور لسياسة اجتماعية شائعة في الشرق والغرب، لا يسع هذا المقال سردها وتحليلها، لكن منذ بدء السبعينيات وُجّهت انتقادات حادة، خاصة في أوروبا الغربية، لهذه السياسة لما تسببت فيه من زيادة عجز الموازنة.
في المقابل، صعدت مع رونالد ريجان في واشنطن ومارجريت تاتشر في لندن، تصورات عن ضرورة العودة للتسليع، لتحسين كفاءة الاقتصاد وقصر الدعم على الفئات شديدة الفقر فقط، ويفضل أن يكون نقديًا حتى تترك الدولة ساحة "التسعير" تمامًا للقطاع الخاص.
ساهمت هذه البيئة الدولية في تمهيد الطريق أمام الدولة في مصر منذ التسعينيات، ليبدأ التحلل من نموذج الرفاه القديم، وهو الأمر الذي اتخذ دفعة كبيرة منذ 2014.
عقود من التسليع في مصر
لم تقتصر الدفعة الأولى من التسليع في مصر خلال التسعينيات عبر الخصخصة، على بيع حصة من القطاع العام فقط، لكنها امتدت إلى تعميم تعليمات لمؤسسات هذا القطاع بأنها لم تعد ملزمة بتسعير منتجاتها على أساس اجتماعي(**)، بل عليها أن تنافس القطاع الخاص وإن سقطت فلن ينقذها أحد.
كان الملمح الأبرز للمرحلة الثانية من التسليع هو تسريع وتيرة انكماش دعم الطاقة
المدخل الثاني للتسليع كان انسحاب الدولة تدريجيًا من سياسة تعيين كل خريج، التي بدأتها منذ الثمانينيات واستمرت لعقود، حتى تراجع نصيب الوظائف الحكومية من مجمل الوظائف في الوقت الراهن على نحو 21%. لا يقتصر أثر هذا الانسحاب على مجرد استبدال صاحب عمل خاص بحكومي، ولكن تبعه تدهور في شروط وامتيازات العمل، إذ أعطى هذا الانسحاب للوظائف غير الرسمية دورًا أساسيًا في التشغيل.
أما المرحلة الثانية من التسليع فبدأت في 2014، وكما نعلم جميعًا فقد كان الملمح الأبرز لها هو تسريع وتيرة انكماش دعم الطاقة عبر إعلان برنامج تدريجي لتحرير أسعار الوقود والكهرباء لتقترب من التكلفة الحقيقية. تمكنت الدولة من كسر هذا التابو، الذي كان من المحرمات حتى التسعينيات، ليس فقط بدعم من صندوق النقد، ولكن لأننا تحولنا لمستوردٍ صافٍ للنفط منذ 2006، أي أن مسألة الدعم لم تعد موضوعًا للسياسة المحلية بقدر ما صارت ترتبط بموازيننا الخارجية.
ثمة تسليع آخر جرى عبر عقود طويلة، تَمثّل في الحد من دعم التموين، كما تشرح ماري فانيتزل، وهي باحثة فرنسية أقامت في مصر لفترة طويلة وكان لديها شغف قوي بدراسة نظام التموين المصري. في 1981 كان نحو 95% من إجمالي السكان مسجّلين في هذا النظام الذي كان يضمن لهم حصصًا شهرية من السكر والأرز والزيت بأسعار لا تعكس التضخم، وتراجعت هذه النسبة بقوة منذ التسعينيات حتى بلغت في 2022 نحو 62%، وتغيّر النظام إلى دعم نقدي لا يحمي من التضخم مثل ذي قبل.
كان التصور السائد ونحن نشارك في تظاهرات 2011 هو أن العدالة الاجتماعية يمكن بلوغها في خطوة واحدة، وهي معادلة أخطأنا في حسابها
بل إن المؤسسات الحكومية تحولت إلى الأداء "الشركاتي" أو ما يعرف بـ corporatization، ليس فقط لقطاع الأعمال العام المسؤول عن إنتاج السلع والخدمات ذات الطابع الاقتصادي، ولكن حتى لمؤسسات الخدمات العامة مثل التعليم، كما تشرح نهى رشدي باحثة العلوم الاجتماعية، فقد باتت مؤسسات تابعة للدولة تنافس القطاع الخاص في مجال التعليم الدولي.
العدالة الاجتماعية في 2025
ساهمت موجات التسليع السابقة في جعل الواقع السياسي أكثر تعقيدًا، أحسب أن التصور السائد بيننا ونحن نشارك في تظاهرات يناير 2011 هو أن العدالة الاجتماعية يمكن بلوغها في خطوة واحدة إذا استطعنا أن نجعل السلطة تستجيب لنا، وهي المعادلة التي أخطأنا في حسابها، في تقديري.
لم أغير قناعتي حتى الآن في أهمية الديمقراطية والمساءلة والمحاسبة، ولكن أي سلطة راغبة فعلًا في تحقيق العدالة ستواجه أسئلة صعبة، مثل كيف سنعدّل علاقتنا غير العادلة مع الدولار والنظام المالي العالمي باقتصاد مغرق في التبعية وغير قادر على ضبط موازينه الخارجية بدون مساعدة صندوق النقد، حتى بعد مساعدة كبيرة بحجم رأس الحكمة؟
كذلك، كيف سنفرض العدالة في توزيع الثروة بعد كل المقاومة التي واجهتها الضريبة العقارية من ملاك السكن؟ كيف سنفرض تسعيرة جبرية في سوق تسوده المضاربات وتجعل أي سلعة مدعمة مجال للتسقيع وإعادة البيع في السوق السوداء؟ كيف سنفرض العدالة في علاقات العمل والمُشغل الرئيسي هو القطاع غير الرسمي الذي تعجز الدولة، بكل ما تملكه من معلومات، عن متابعته والسيطرة عليه؟ كيف سنطالب القطاع الخاص بالاستجابة لمطالب الناس في إنتاج ما يحتاجونه مثل السكن الاقتصادي والدولة نفسها تسابقهم في إنتاج السكن الفاخر؟
ليست هذه دعوة لليأس، ولكن ربما نحتاج لإعادة النظر في أفكارنا، ربما نحتاج لحلول أكثر ثورية
لا شك أن لغياب الديمقراطية دورًا في مفاقمة هذا الوضع، لكنه ليس المعضلة الوحيدة، فعملية التسليع التي جرت على مدار عقود جعلت التحديات التي تواجه أي مطالب بالعدالة الاجتماعية أشبه بمن يكافح الوحش الأسطوري متعدد الرؤوس المعروف في المخيلة اليونانية باسم هيدرا.
ربما يكون إدراك الكثيرين لصعوبة الوضع هو ما أدى لتراجع شعبية الحل الجماعي الذي كنا نتعلق به أيام الثورة، والهروب للفردية. خاصة وأن الوضع الاقتصادي يشجع على ذلك، فالكثيرون لا يجدون وظائف سوى العمل الحر بمدخراتهم البسيطة مثل النقل التشاركي، والعديد من النساء يأسن من العمل اللائق فعزفن عن العمل.
ليست هذه دعوة لليأس، ولكن ربما نحتاج لإعادة النظر في أفكارنا، ربما نحتاج لحلول أكثر ثورية تعيد ترتيب علاقتنا بالنظام المالي العالمي على نحو أكثر استقلالًا، لديمقراطية أكثر عمقًا تقترب من العمال في مواقع الإنتاج المختلفة وتتخاطب مع المشروعات الصغيرة وغير الرسمية، إلى مواجهة حاسمة مع الثروات الكبيرة والتوحد حول فكرة تقريب الفوارق الطبقية، وتصور سياسي لا ينظر لحيتان السوق على أنهم طرف محايد في الصراع وإنما طبقة مسيطرة علينا أن نوقف سعيها الدؤوب نحو تسليع كل شيء في حياتنا.