
بيزنس السياسة في عصر ترامب
بعد أن احتدم الخلاف بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وضيفه الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في اللقاء الكارثي الذي لن يُنسى في البيت الأبيض، الجمعة الماضي، رفع ترامب إصبعه محذرًا ضيفه قائلًا "لن نكون قادرين على العمل سويًا بهذه الطريقة"، مستخدمًا التعبير الإنجليزي we can not do business، المرتبط أكثر بالتجارة وإدارة الأعمال.
بالطبع شهد اللقاء فضائح أخرى، مثلما حدث عندما استبدَّ الغضب بترامب فدفع ضيفه الأوكراني بيده ليستمع لما يقوله، أو عندما أرسل وزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي إلى زيلينسكي ومرافقيه لطردهم من البيت الأبيض.
تعكس هذه التصرفات غضب رجل الأعمال بعد فشل صفقة كان يظنها مضمونةً في مواجهة طرف هو الأضعف، كان متوقعًا منه أن يتلقف كل ما يعرضه عليه بكل سعادة ورضا وامتنان. في النهاية، كل شيء بالنسبة للملياردير مطور العقارات وصاحب ملاعب الجولف ومقدم البرامج التليفزيونية المهووس بعبارات الإطراء على ذكائه الاستثنائي وقدراته المتفردة، مجرد "بيزنس"، حتى لو ارتبط بخلافات وصراعات تاريخية وعميقة مثل تلك التي تتعامل معها الولايات المتحدة سواء في فلسطين أو أوكرانيا.
بالتالي، يعتقد الرئيس الأمريكي أنه أيًا كانت حدة الخلافات، فبإمكانه أن يأتي بالأطراف المتصارعة ويطرح على كل منهم حوافز وإغراءات قد يكون بعضها غير مسبوق و"خارج الصندوق"، مثل مقترحه العبثي تهجير الفلسطينيين من غزة وامتلاكها وتطويرها كمنتجع سياحي يضاهي الريفييرا الفرنسية.
وفي حالة أوكرانيا، فالعرض هو اتفاق شراء المعادن النادرة التي تحتاجها الولايات المتحدة لتنافس الصين، مقابل الدعم السخي الذي قدمته لأوكرانيا منذ أن بدأت روسيا الحرب ضدها قبل ثلاث سنوات، الذي لن تواصل تقديمه مجانًا بل بمقابل باهظ يُمكّن ترامب من التأكيد على أنه حقق انتصارًا كبيرًا في تنفيذ عملي لشعار "أمريكا أولًا".
الرئيس المقاول
من منظور رجل الأعمال، لا يتصور ترامب أن يرفض أحدٌ إغراءاته المادية المذهلة مثل توفير مساكن بديلة مريحة للفلسطينيين في دول الجوار وربما حوافز مادية مغرية، مقابل تخليهم عن أرضهم ليطورها ويجني من ذلك المليارات. ففي النهاية القضية قضية بيزنس لا مجال فيها للمبادئ والحقوق من قبيل إنهاء الاحتلال الصهيوني غير الشرعي لأراضي فلسطين وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم.
لا يُقدِّر ترامب، ومعه صهره جاريد كوشنير ومبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، وكلاهما أيضًا من كبار تجار العقارات في الولايات المتحدة ومن قادة الجالية اليهودية الأمريكية، أن هناك أمورًا لا تُباع ولا تشترى عندما يتعلق الأمر بقضايا وصراعات معقدة قد يرجع تاريخها إلى مئات إن لم يكن آلاف السنين.
ولا يفهم ترامب أو يصدِّق كيف يمكن أن يرفض فلسطينيٌّ مئات آلاف الدولارات مقابل تخليه عن منزله المهدم، ثم يكون رده أنه يفضل الموت وسط هذا الركام بدلًا من الرحيل عن وطنه. فهذه المواقف هي أقرب للشعارات بالنسبة له، وقد يعتبرها تشددًا فلسطينيًا في التفاوض لزيادة مكتسبات الصفقة.
المشكلة أن نقطة الانطلاق في صفقة ترامب بالنسبة للشرق الأوسط هي الانحياز الكامل لإسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين، وبالتالي تكون الصفقة دائمًا ظالمة، حتى من منظور البيزنس. فمنطلق ترامب ومن يحيطون به في إدارته، هو أن إسرائيل هي صاحبة الأرض. ومن هذا المنطلق الصهيوني، يكون الفلسطينيون هم من عليهم الرحيل، ويكون ما سينالونه مقابل ذلك كرمًا زائدًا وصفقة مغرية، أطلقها ترامب وتلقفها اليمين الإسرائيلي باعتبارها انتصارًا تاريخيًا وفرصةً ذهبيةً لتحقيق حلم طالما سعوا إليه منذ نشأة دولة الاحتلال عام 1948.
ولكن تختلف الحالة الفلسطينية عن الأوكرانية، في أن ثمن رفض الصفقة لن يكون انسحاب الولايات المتحدة من جهود تحقيق السلام، ولكن "فتح أبواب الجحيم" بمنح إسرائيل الضوء الأخضر لاستئناف حرب الإبادة والتجويع بحق الفلسطينيين.
من الخسائر الجانبية لموقعة المكتب البيضاوي أن قادة العالم سيفكرون مليًا قبل زيارة ترامب
في أوكرانيا لا يهتم ترامب كثيرًا بالخلفية التاريخية للصراع مع روسيا، وخشية جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ودول أوروبا الشرقية من طموح بوتين في استعادة مجد تلك الإمبراطورية المنهارة. ولتحقيق الصفقة التي يسعى لها، وكذلك الخروج بمظهر القادر على فعل المعجزات وتحقيق السلام وإنهاء الحروب، اعتبر ترامب أن حديث زيلينسكي عن ضرورة إنهاء الاحتلال الروسي لأراضٍ في بلاده والحصول على ضمانات أمنية لكيلا تعود موسكو لغزو أوكرانيا "عدم تقدير واحترام" لمجهوده من أجل وقف الحرب، بغض النظر عن التفاصيل.
وبجانب حديث الصفقات والأموال، فإن ترامب يحمل كراهية شخصية للرئيس الأوكراني الذي رفض تقديم المساعدة له لهزيمة خصمه اللدود بايدن في انتخابات 2020، وذلك عندما رفض أن يقدم له الوثائق التي قد تدين هانتر، نجل بايدن، في اتهامه بقضايا فساد في أوكرانيا. واستغل الديمقراطيون الكشف عن الضغوط التي مارسها ترامب على زيلينسكي لتقديم تلك الوثائق، وتهديده بحرمانه من المساعدات الأمريكية، في محاولة عزله من منصبه من قبل.
إشعال الحروب
قبل توجهه إلى البيت الأبيض، تلقى زيلينسكي نصيحة من السيناتور الجمهوري البارز ليندسي جراهام بعدم التركيز على المطالبة بالضمانات الأمنية قبل أن يبدي موافقته على وقف الحرب مع روسيا، وذكَّره بسلوك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر اللذين التقيا ترامب في البيت الأبيض في الأسبوع نفسه، وتعاملا بذكاء مع رغبته في سماع عبارات الإطراء والمدح، مع إشارة مهذبة إلى وجود خلافات بشأن أوكرانيا أو الحرب التجارية والرسوم الجمركية على المنتجات الأوروبية.
ولكن يبدو أن زيلينسكي لم يمتلك هذه الحنكة أو الخبرة، وخرج جراهام بعد نهاية الاجتماع مع ترامب ليطالب الرئيس الأوكراني بالاستقالة من منصبه إذا كان لبلاده أن تواصل دعم أوكرانيا.
ومن بين الخسائر الجانبية للموقعة المذهلة التي شهدها المكتب البيضاوي، أن قادة العالم سيفكرون مليًا من الآن فصاعدًا قبل زيارة الرئيس الأمريكي تجنبًا لمواقف محرجة ومهينة مماثلة. وسيصرُّون على الأغلب أن تكون لقاءاتهم مغلقة بعيدًا عن أعين الصحفيين والكاميرات.
كان العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين أول من عانى من سعي ترامب استغلال لقاءاته في البيت الأبيض لاستعراض إنجازاته وروعته وذكائه وقدرته على عقد الصفقات، عندما استقبله قبل أسابيع وتحدث بإسهاب عن مشروعه العبثي لتهجير الفلسطينيين قسرًا من وطنهم وتخصيص قطعة أرض لهم في الأردن، وقطعة مماثلة في مصر.
وقال مراسلو البيت الأبيض حينها إن العاهل الأردني فوجئ بالسماح بدخول الصحفيين وبعقد مؤتمر صحفي بعد أن أُبلغ في وقت سابق بأن اللقاء سيكون مغلقًا. غير أن الملك عبد الله أبدى إدراكًا أكبر من زيلينسكي لشخصية ترامب والعلاقة التي تربط بلاده بالولايات المتحدة. وبالتالي تجنب أن يعبر علنًا عن معارضته لخطة تهجير الفلسطينيين، وهو ما سبب له حرجًا بالغًا على الصعيدين الداخلي والعربي.
ولكن لأنه يعيش في عالم بيزنس السياسة، عبر ترامب في تصريحات لاحقة عن دهشته من رفض مصر والأردن لخطته، مشيرًا إلى أن كلا البلدين يتلقيان مليارات الدولارات من بلاده، بالتالي كان من المفترض أن يوافقا فورًا على كل ما يطرحه. ربما يكون هناك من شرح له أن الأمر لا يتعلق بالمال فقط، وأن ما يقترحه من أفكار عبثية لن يؤدي إلا إلى سلسلة من الاضطرابات وربما الحروب التي ستمتد أكثر من السنوات الأربع التي يفترض أن يقضيها في البيت الأبيض.
وحتى يدرك ترامب أن السياسة ليست كلها بيزنس، فربما يكون من الأفضل أن يتجنب قادة العالم زيارته في البيت الأبيض إلا لو كان لديهم الاستعداد لقبول صفقاته والإشادة بعبقريته الفذة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.