ما زلت أعيش في مدينة النور حاملًا صفة اللاجئ السياسي، بعيدًا عن وطني سوريا الذي يثقلني بحكاياته، وذكرياته، وجراحه التي لم تندمل. أتابع الأخبار عن بلدي بشغف المغترب الذي لا يستطيع العودة، وعن ذلك المكان الذي كان شاهدًا على أحلك أيام حياتي؛ فرع فلسطين، أو المبنى 235 التابع للمخابرات العسكرية السورية.
عندما اعتُقلت في سوريا، كنت صحفيًا، أحمل قلمي أداةَ مقاومة ضد الاستبداد آنذاك، اقتادوني إلى فرع فلسطين، ذلك الاسم الذي لطالما كان رمزًا للرعب والقهر. حدث ذلك عام 2013، حملت رقم 101 عوضًا عن اسمي الحقيقي، والزنزانة التي حملت جزءًا من روحي المنكسرة كانت الزنزانة رقم 14.
الجلَّاد المُكنَّى "أبو حبيب" صادفت صور جثته في دمشق وقد قتلته إحدى الفصائل المسلحة
داخل هذا الفرع اختبرت أقسى درجات الألم، ليس فقط من سياط الجلادين، ولكن من إحساس العجز والوحدة. كنت معصوب العينين معظم الوقت، لا أرى وجوه الجلادين الذين تركوا على جسدي علامات لا تمحى. لم تتوقف الكلمات، لأن السياط تتحدث حين يعجز اللسان، والأجساد تتوسل حين تفقد الروح لغتها.
كانوا بلا أسماء ولا وجوه، كأنهم خرجوا من خماسية مدن الملح؛ أشباحًا بلا أرواح، آلات تكرر ذات التعذيب ببرود لا يُحتمل، مجرد أدوات للقمع. إلى اليوم، لا أعرف إن كانوا أحياءً أم موتى، ولا أعرف إن كانوا ما زالوا يمارسون القمع، أم أصبحوا ضحايا مثلي، باستثناء أحدهم؛ ذلك المُكنَّى بـ"أبو حبيب"، الضخم الأشقر الباهت المملوء عنفًا وكراهيةً، إذ صادفت صور جثته يومًا وقد قتلته إحدى الفصائل المسلحة في دمشق.
الجسد شاهدٌ على الألم
رائحة عرقي التي اختلطت برائحة الدماء ما زالت في ذاكرتي، أشتمُّها تمامًا كأنها لم تغادر ذلك المكان. كان جسدي يحفر الأرضية كلما عجز عن تحمل الألم، وكلما انهارت قواي أمام ضربات التعذيب. الأرضية الباردة كانت شاهدةً على معاناتي، وربما ما زالت تحمل آثار أوجاعي هناك. تلك الأرضية صلبة كالجدران، شاهدة على كل صرخة وكل رجفة، كأنها سجّلت في مسامها معاناتنا، كما تُسجَّل الرياح في الرمال في صحراء لا تنسى خطوات من مروا عليها.
أما جسدي اليوم، فهو صورة لما كنت عليه هناك، الندوب التي تركها "الأخضر الإبراهيمي" وهو أنبوب بلاستيكي أطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى المندوب الأممي الأسبق إلى سوريا، والحبوب والتقرحات التي حفرت نفسها في جلدي، أصبحت خارطة تعيدني كل مرة إلى تلك الزنزانة، كلما نظرت في المرآة، أرى ظلال الماضي محفورة في جسدي، شاهدة على تجربة لا تنسى، ولا تغتفر. كلما دخلت غرفة صغيرة كالتي تقاس فيها الملابس في المحلات، أختنق، ينقطع نفسي، فأهرب.
البحث عن الوجوه خلف الجدران
أتابع اليوم صور المعتقلين المفرج عنهم من المعتقلات الأخرى، أتصفح الوجوه وأبحث بينها عن أسماء ووجوه كانت معي في ذلك الفرع، تركتها هناك تصارع الجدران في الزنزانة 14، كل اسم أقرؤه أو وجه أراه يعيدني إلى تلك اللحظات، ويشعل في داخلي سؤالًا: هل هم بخير؟ هل استطاعوا النجاة؟ أفكر بمن كانوا معي، أسماؤهم ما زالت محفورة في ذاكرتي كأنها شواهد قبور. ماذا حدث لهم؟ هل خرجوا أحياء؟ أم أن الظلام ابتلعهم كما ابتلعني في تلك الليالي؟
وفي صور شوارع دمشق التي أراها عن بُعد، أتساءل عن السجانين/الجلادين: هل ما زالوا يتجولون هناك متنكرين؟ أم أنهم، كعادتهم، تحولوا إلى مؤيدين جدد لحكومة الأمر الواقع، يغيرون ولاءاتهم ويصبحون وجوهًا أخرى في نظام ربما لم يتغير، بل ارتدى لونًا جديدًا لم نتعرف عليه وسط الفوضى التي تدور في المعتقلات والمقرات السرية للمختفين والمعتقلين؟ هل يقفون الآن على ناصية شارع، يشربون القهوة كأنهم لم يكونوا يومًا أدوات لآلة العذاب؟
بين الانتظار والعدالة
اليوم، أعيش في فرنسا، حرٌ، لكن ليس تمامًا، الماضي يطاردني كظل طويل في نهاية يوم شتوي، الفرع الذي كان مصدر عذابي قد سقط، لكن ذكراه لم تسقط، العدالة التي أنتظرها لم تتحقق.
نعم، مرة أخرى فرع فلسطين قد سقط، لكن الجلادين الذين تركوا آثارهم في جسدي وروحي ما زالوا أحرارًا. العدالة التي أنتظرها لم تتحقق بعد، لكني ما زلت أحملها داخلي، كحلم يتجدد مع كل وجه أبحث عنه، وكل اسم أستعيده من ذاكرة ذلك المكان.
كان يجب أن يكون تحرير الفرع انتصارًا للعدالة، لكنه لم يكن كذلك، لم أستطع العودة إليه، ولا إلى سوريا. الجلاد الذي عذبني ربما يعيش حاليًا بلا خوف أو محاسبة. وربما، كما كان يقول عبد الرحمن منيف "النهايات لا تأتي كما نريد، بل كما يشاء من يكتبها".
أتخيل يومًا أعود فيه إلى دمشق، أقف أمام أولئك الجلادين وأقول لهم "أنا شيار خليل. أنا الرقم الذي تركتم روحه هناك". أريد أن أنظر في وجوههم، لا لأنتقم، بل لأخبرهم أنني لم أنسَ، أن الجدران التي شهدت صرخاتي ما زالت تنتظر أن تُفتح لتقول الحقيقة.
فرع فلسطين سقط، لكن الزنزانة 14 لم تسقط، ما زالت قائمة في داخلي، وما زال جسدي يحمل آثارها، وكما قال عبد الرحمن منيف "إن المصيبة ليست في ظلم الأشرار، بل في صمت الأخيار". وأنا، في صمتي، أحمل عدالتي بانتظار يوم أستعيد فيه ما سُرق مني.