نالت أبحاث الضوء اهتمام علماء القرنين الثامن والتاسع عشر، إذ حاولوا فهم طبيعته من خلال مجموعة من التجارب الدقيقة التي أظهرت طبيعة موجية له، كما أوضحت في مقال سابق. ومن ضمن هذه التجارب، حاول الفرنسي أرماند فيزو قياس سرعة الضوء معمليًا، عبر تجربة أرضية، بدلًا من القياسات والحسابات الفلكية التي قام بها، مثلًا، رومير وهيجنز عام 1675، وجيمس برادلي عام 1729.
وضع فيزو (1819-1896) في تجربته مصدرًا للضوء وترسًا به 720 سِنَّة، يدور بسرعة يمكن التحكم بها، فوق تلّة. وفوق تلّة أخرى تبعد ثمانية كيلومترات عن الأولى وضع مرآة عاكسة.
يمر شعاع ضوء من المصدر بين أسنان الترس الدوار، فيقطع المسافة بين هاتين التلّتين، ثم ينعكس عائدًا، ويفترض أن يمر بين أسنان الترس ثانيةً، لكنَّ ذلك يعتمد على سرعة دوران الترس. وفي حالة مروره من فتحات الترس، تستقبله مرآة أخرى تعكسه عموديًا، فيراه الملاحظ عبر تليسكوب مشاهدة.
بدأت التجربة بزيادة سرعة دوران الترس تدريجيًا وملاحظة مرور الشعاع، لكنه كان يمر فقط عندما تكون سرعة الدوران 25 دورة في الثانية، عندها يظهر الشعاع للملاحظ.
أظهرت قياسات فيزو أنَّ سرعة الضوء هي 315000 كم في الثانية، بمعدل خطأ قدره 5% من القيمة الحالية. ولكن بعد ذلك بسنوات، استطاع ليون فوكو عام 1862 قياسها بدقة، وبقيمة خطأ 0.6% فقط، إذ تبلغ القيمة الحالية 299792.458 كم في الثانية.
لعب هذا القياس الدقيق لسرعة الضوء دورًا مهمًا في الكشف عن صحة نظرية ماكسويل في الكهرومغناطيسية، كما سنرى لاحقًا.
لغز حلقات زحل
ولد جيمس كلارك ماكسويل عام 1831 لعائلة أسكتلندية ميسورة في إدنبره. توفيت أمه وهو في عمر الثامنة، فاعتنى به أبوه الذي كان جيمس يحبه كثيرًا.
في سن العاشرة أقام مع إحدى خالاته عندما التحق بأكاديمية إدنبره. وهناك واجه سخرية الطلبة من لهجته الريفية، لكنه سرعان ما أثار إعجاب أغلبهم بمواهبه المتعددة، وخاصة في الرياضيات.
في جامعة إدنبره درس جيمس العلوم الطبيعية لثلاث سنوات، ثم أكمل دراسته في كامبريدج واستمر فيها زميلًا حتى عام 1856. وفي العام نفسه أصبح أستاذًا للفلسفة الطبيعية (أي الفيزياء) في ماريسكال كوليدج في إدنبره، وهي التي صارت جامعة إدنبره فيما بعد.
خلال عاميه الأخيرين في كامبريدج أجرى بحثين مهمين: طوَّر في الأول نظريته في رؤية الألوان، فتوصل لإمكانية تكوين أيِّ لون عن طريق دمج الأحمر والأزرق والأخضر. ولخَّص في الثاني، الذي حمل عنوان "عن خطوط القوى عند فاراداي"، ما كان معروفًا حينها عن الظواهر الكهربائية والمغناطيسية، فكان بداية لسلسلة من الدراسات التي قادته بعد ذلك لنظريته في الكهرومغناطيسية.
وفي ماريسكال كوليدج، عمل ماكسويل على تفسير طبيعة حلقات زحل. وحظيت دراسته هذه بصدى خاص، لأن كلية سانت جون في كامبريدج اختارتها لجائزة آدامز عام 1857.
كانت هناك ثلاثة تفسيرات مقترحة لحلقات زحل؛ إما أنها تتكون من أجسام صلبة، أو أنها مائعة كالغاز، أو أنها كتل صغيرة غير متصلة. وكانت الجائزة لمن يجيب عن سؤال: أيُّ هذه التفسيرات أكثر استقرارًا حركيًا؟
أثبت ماكسويل أنَّ الحلقة الصلبة لا يمكنها الاستقرار، في حين أنَّ الحلقة الغازية ستضطر إلى الانقسام مع الوقت. وخَلُص إلى أن الحلقات لا بد وأن تتكون من العديد من الصخور الصغيرة، التي يدور كل منها في مداره الخاص حول زحل، لأن هذا سيكون الأكثر استقرارًا.
حصل ماكسويل على جائزة آدامز عام 1859 عن مقاله "حول استقرار حركة حلقات زحل"، وكان تفسيره صحيحًا. وساعده البحث السابق على إجراء أبحاث تالية في مجال آخر، وهو النظرية الحركية للغازات. تدرب ماكسويل على المعالجات الفيزيائية لوصف عدد كبير من الجسيمات، وكيفية صياغتها رياضيًا، فأنتج عدة دراسات متميزة.
ماكسويل والكهرومغناطيسية
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أظهرت تجارب كلٍّ من أورستيد وفاراداي ارتباط الظواهر المغناطيسية بالظواهر الكهربائية، وهو ما نسميه اليوم بالكهرومغناطيسية.
اكتشف أورستد أنَّ التيار الكهربائي الذي يمر في سلك معدني ينتج مجالًا مغناطيسيًا يدور في دوائر حول السلك! كما اكتشف فاراداي أنَّ المجال المغناطيسي المتغيرة شدته مع الزمن، ينتج مجالًا كهربائيًا يدور حول المجال المغناطيسي.
تقوم نظرية ماكسويل على أفكار فاراداي، وأنَّ الشحنات الكهربائية هي مصدر خطوط القوى أو المجال الكهربائي، وكذلك أنَّ الشحنات المغناطيسية هي مصدر المجال المغناطيسي. فإذا كانت الشحنة موجبة خرجت منها خطوط المجال في كلِّ اتجاه، وإذا كانت سالبة فإنها ستكون مَصبًّا لهذه الخطوط فتنتهي عندها.
يمكننا محاكاة المجال الكهربائي أو المغناطيسي بسائلٍ يتدفق في حوض كبير، يملأ الفراغ، وقد ينتهي في فتحة صرف (شحنة سالبة) أو يخرج من صنبور/مَصدر (شحنة موجبة)، وينتشر في الحوض.
لكن كيف نقيس كميًا شدّة المصدر، أي شدّة الشحنات؟ هناك عملية رياضية مهمة (مثل عملية الجمع أو الضرب) يمكن إجراؤها على أيٍّ من هذه المجالات، ودون أن نعرف مسبقًا وجود مَصدر أو مَصرف، يمكنها أن تخبرنا عن وجود مَصدر أو مَصرف، وأن تخبرنا كذلك عن شدّته.
تسمى هذه العملية بالتباعد/divergence. فإذا كان لدينا مجال كهربائي يملأ فراغًا له حجم محدد، وحسبنا تباعده فوجدناه رقمًا موجبًا (أي أنَّ هناك مَصدرًا)، فإن ذلك يشير إلى وجود شحنة كهربائية موجبة قيمتها مساوية لهذا الرقم. وقد يشير ذلك أيضًا إلى وجود شحنات سالبة وموجبة معًا، يكون ناتج جمعها موجبًا.
أما إذا كان التباعد رقمًا سالبًا (أي أنَّ هناك مَصرفًا)، فإن ذلك يشير إلى وجود شحنة كهربائية سالبة أو شحنات سالبة وموجبة معًا ناتج جمعها سالبًا. وإذا كان التباعد صفرًا، فإن ذلك يشير إلى عدم وجود أي شحنات، أو إلى شحنات موجبة وسالبة متساوية.
هناك عملية أخرى تسمى اللف/curl، تخبرنا عن وجود دوامات في حوض السائل إذا كانت نتيجة العملية غير صفرية، أما إن كانت صفرية فلن توجد دوامات في الحوض. نستطيع مثلًا أن نصف بعملية "اللف" دوامةَ المجال المغناطيسي الدائر حول السلك الكهربائي في تجربة أورستيد. كذلك نستطيع من خلال تأثير اللف على المجال الكهربائي أن نصف تجربة فاراداي التي تنتج عنها دوامات كهربائية أو مجال كهربائي يدور حول المجال المغناطيسي المتغير مع الزمن.
معادلات ماكسويل الأربع
نحن الآن جاهزون لفهم معادلات الكهرومغناطيسية الأربع التي صاغها ماكسويل صياغة رياضية مُحكمة حتى قبل أن يقدم نظريته الكاملة بسنوات. صاغها كعدد من المعادلات بلغة قريبة من عمليات التباعد واللف الحديثة والتي سوف تساعدنا على فهم ما يحدث.
(1) معادلة جاوس للكهربائية: تباعد المجال الكهربائي في حجم محدد يساوي الشحنة الموجودة داخل الحجم، والتي قد تكون موجبة أو سالبة أو صفرية.
(2) معادلة جاوس للمغناطيسية: تباعد المجال المغناطيسي يساوي دائمًا صفرًا. أي أنه لا توجد شحنات مغناطيسية وحيدة القطب. تذكر أنَّ المغناطيس دائمًا له قطبان شمالي وجنوبي، أي سالب وموجب، ولا يوجد قطب وحيد. وجود قطبين دائمين معًا يجعل مجموع الشحنات صفرًا، ولذلك التباعد قيمته صفرية.
(3) معادلة فاراداي: التغير الزمني للمجال المغناطيسي يساوي لف المجال الكهربائي. أي أنَّ تغير المجال المغناطيسي مع الزمن يُنتج دوامات كهربائية يدور فيها المجال الكهربائي حول المجال المغناطيسي المتغير.
(4) معادلة أورستيد-أمبير: لف المجال المغناطيسي يساوي قيمة التيار الكهربائي المار في سلك له مقطع محدد. أي أنَّ التيار الكهربائي يُنتج دوامات مغناطيسية يدور فيها المجال المغناطيسي حول التيار الكهربائي.
حقيقة الضوء
هكذا كانت الأربعة قوانين المعروفة تجريبيًا عندما صاغها ماكسويل، والتي شكلت كل معارفنا تقريبًا عن الكهرومغناطيسية. لكن هذه المعادلات لم تكن متسقة مع بعضها، والسبب في ذلك معرفة الفيزيائيين بحقيقة رياضية تقول إنك إذا أثرت بعملية "اللف" على أي مجال، ثم تبعتها بعملية "التباعد"، سيكون الناتج دائمًا صفرًا!
يستخدم الفيزيائيون والرياضيون هذه المتطابقات لاختبار تناسق المعادلات مع بعضها البعض. لذلك طبق ماكسويل هذه الحقيقة الرياضية على معادلة فاراداي فتحققت، ولكن عندما طبقها على معادلة أورستد-أمبير لم تتحقق.
تعلم الفيزيائيون الدرس فصاروا يحاولون دائمًا دمج أكبر عدد من المفاهيم في بضع مبادئ
لكن هذه المعادلات هي مجرد ملخص النتائج التجريبية في علم الكهرومغناطيسية، فهل القوانين الطبيعية غير متسقة ومتضاربة مع بعضها البعض؟ كان هذا موقفًا محيرًا للفيزيائيين وبينهم ماكسويل، ولعقد كامل لم يقدم أيٌّ منهم أيَّ حلٍّ.
عندها قفزت في عقل ماكسويل الفكرة التالية: ماذا لو أنَّ هناك حدًّا في معادلة أورستد-أمبير، لم نكتشفه تجريبيًا بَعد، لصغر تأثيره على نتائج التجارب السابقة؟ وبالفعل وجد ماكسويل هذا الحَد الإضافي، إذ كان التغير الزمني للمجال الكهربائي في معادلة أورستد-أمبير، الذي يقابل التغير الزمني للمجال المغناطيسي في معادلة فاراداي. فيصير هناك تماثل واضح بين المجالين المغناطيسي والكهربائي في هذه المعادلات.
بمجرد أن أضاف ماكسويل الحَد الجديد، وفي حالة عدم وجود شحنات أو تيار كهربائي، ينتج المجال الكهربائي والمغناطيسي موجات تنتشر في الفراغ. حيث يتغير المجال الكهربائي مع الزمن منتجًا مجالًا مغناطيسيًا ينتج عنه مجال كهربائي، وهكذا لا تتوقف هذه العملية أبدًا.
حَسب ماكسويل سرعة هذه الموجات، فكانت دهشته عظيمة عندما حصل على سرعة تساوي 299792.458 كم في الثانية تقريبًا؛ أي سرعة الضوء. حينها علم أنه اكتشف أمرًا تتجاوز قيمته ما كان يظنه.
اكتشف ماكسويل أنَّ الضوء المراوغ ليس إلا اضطرابات كهرومغناطيسية. سميت المعادلات الأربع بعد تعديلها بمعادلات ماكسويل، ومثلت النسق الكامل لدراسة أيِّ ظاهرة كهرومغناطيسية كلاسيكية.
وَحَّد ماكسويل في هذه النظرية بين قوتين كانتا تبدوان لنا، وطول قرون، مختلفتين: القوة الكهربائية والقوة المغناطيسية، ودمج كذلك مجالين من أهم مجالات الفيزياء معًا.
نعرف الآن أنَّ كلَّ قوانين علم البصريات يمكن تفسيرها عن طريق قوانين علم الكهرومغناطيسية، لكننا لقرون لم نكن ندرك ذلك.
منذ ذلك الوقت تعلم الفيزيائيون الدرس، فصاروا دائمًا يحاولون دمج أكبر عدد من المفاهيم في بضع مبادئ. كذلك دمج قوى الطبيعة المختلفة في نسق واحد، وبالفعل أحرزنا بعض التقدم في ذلك. لكن هل دمج جميع قوى الطبيعة ممكن تجريبيًا ورياضيًا؟ وهل سيكون ثمن ذلك زيادة تعقيد البناء النظري أو الرياضي؟ ربما سوف يجيب عن ذلك علماء المستقبل، لكننا الآن لا نعرف!