خلال العقد الأخير ارتفع متوسط استهلاك الفرد في مصر من القهوة بشكل حاد ليصل إلى 720 جرامًا في 2021، بعد أن كان مستقرًا تحت مستوى الـ 200 جرام منذ الستينيات، وهو ما قد يرجع إلى انتشار عادات شرب القهوة بين الأجيال الشابة، بأنواعها المختلفة، الخبر السيئ أن سعر كيلو البن اقترب من الـ 1000 جنيه، وهو ما يجعل "القهوة" أحد البنود المزعجة في الميزانية لدى الملايين من محبيها.
يرصد هذا التقرير أسباب الارتفاع الصارخ في أسعار القهوة، وكيف أثّرت في عادات مستهلكيها.
الدولار وراء الأزمة
على مدار الفترة التي تفاقمت فيها معاملات السوق الموازية للدولار، من 2022 حتى الشهور الأولى من العام الجاري، نقلت الصحافة تصريحات عدة لرئيس شعبة البن باتحاد الغرف التجارية، حسن فوزي، يفسر فيها الصعود المتوالي لسعر البن ويرجعه بشكل رئيسي لارتفاع سعر الدولار الموازي، وذلك نظرًا لاعتمادنا بنسبة 100% على استيراد هذا المنتج من الخارج.
وحسب بيانات البنك الدولي، تهيمن إندونيسيا على أكثر من نصف واردات مصر من القهوة، غير المحمصة أو منزوعة الكافيين، وتأتي بعدها فيتنام والبرازيل والهند وكولومبيا.
يستدعي الصحفي أحمد العطار من ذاكرته التغيرات التي مرت بها أسعار القهوة التي يستهلكها بشكل يومي، فمنذ عام ونصف كان يشتري عبوة صغيرة تكفيه لبضعة أيام بسعر 20 جنيهًا، وصل سعرها حاليًا إلى 70 جنيهًا.
وعن إجمالي استهلاكه الشهري، يقول العطار لـ المنصة "وصلت تكلفة القهوة بالنسبة لي من 1000 إلى 1200 جنيه شهريًا للبن فقط، غير تكلفة السكر".
وبسبب شح النقد الأجنبي، ارتفع سعر الدولار في السوق الموازية خلال العام الماضي، الذي كان قطاع كبير من المستوردين يعتمدون عليه لتمويل تجارتهم، وبلغ الدولار الموازي قمته في بداية العام الجاري عند أكثر من 70 جنيهًا في بعض التعاملات، قبل أن يتراجع لأقل من 50 جنيهًا في فبراير/شباط، بالتزامن مع ارتفاع سعر الصرف الرسمي لمستويات مقاربة.
خلال تلك الفترة ارتفعت أسعار البن بشكل متوالٍ، حيث يقول تاجر البن إسلام الحريري لـ المنصة "في 2022 كان سعر كيلو البن الإندونيسي الخام يتراوح من 120 لـ 130 جنيهًا، في حين إن سعر البن البرازيلي كان من 150 لـ170 جنيهًا، حاليًا سعر البن الإندونيسي بين 500 و600 جنيه، بينما متوسط سعر البن البرازيلي 600 جنيه".
وترتفع تكلفة البن بعد تحميصه وتحويجه، على حسب طريقة المعالجة والعلامة التجارية، ويقترب سعر الكيلو في بعض أنواع البن حاليًا من ألف جنيه، أو يتجاوز ذلك.
ويوضح حسن فوزي رئيس شعبة البن لـ المنصة الاختلاف في السعر بين البن المستورد خامًا من الخارج والمحمص محليًا، وبين الذي يتم استيراده في صورته النهائية "سعر كيلو البن المحلي في الوقت الراهن يتراوح بين 440-480 جنيهًا، أما المستورد فيرتفع عن ذلك بكثير".
ويشير الحريري إلى أن قفزات أسعار البن لم تقتصر على أصناف نخبوية، لكن امتدت إلى الأصناف الأكثر استخدامًا من قبل المستهلكين، ما زاد من وطأة هذا الغلاء على قطاعات واسعة.
وفي ظل مصاعب الاستيراد، كانت ندرة المعروض مع الطلب القوي من محبي القهوة تغذي زيادة الأسعار باستمرار، كما يضيف الحريري.
ويشرح الحريري كيف تغيرت أولويات التاجر والمستهلك بعد هذه الأزمة "اتجه بعض التجار للتركيز على بيع أنواع القهوة الأرخص، أما المستهلكون من غير معتادي شرب القهوة بكثافة فتوقفوا تمامًا عن شرائها، إذ صارت بالنسبة لهم، في ظل هذه الأسعار، مجرد رفاهية".
أما مدمنو القهوة، فلم تنقطع زياراتهم لمحلات البن، كما يقول الحريري، ربما فقط لجأوا للمنتج المحلي بدل المستورد.
"السوق المصرية كانت تستورد حوالي 200 نوع من القهوة، كنت أتاجر في 30 نوعًا منها، بعد الغلاء أصبحت أتعامل مع نصفها فقط". ويشير الحريري إلى أن دعاوى مقاطعة المنتجات الداعمة لإسرائيل ساعدت على تحفيز المستهلكين على الإقبال على العلامات التجارية المحلية.
احذر البن المغشوش
أما عن رد فعل المقاهي على الأزمة، يقول الحريري إن طلبات التوريد للمقاهي الشعبية انخفضت بقوة، ويرجّح أن السبب في ذلك هو اتجاه بعضها لشراء أنواع البن المغشوشة.
انشغل العطار بمحاولة تفسير تغير مذاق القهوة على بعض المقاهي من بعد أزمة الدولار "حاولت تقصّي المشكلة، وعرفت إن السبب هو غش البن بمواد مثل البسلة المجففة بعد حرقها، وهناك من يضيفون فول صويا".
ويقول رئيس شعبة البن لـ المنصة إن صناعة القهوة تخضع إلى مراقبة هيئة المواصفات القياسية المصرية، التي تحدد معايير الصنع وكمية الإضافات المشروعة عليها مثل المستكة أو القرنفل أو الحبهان، وتعمل على تحليل عينات القهوة في الأماكن المسجلة، وهناك عقوبات وغرامات على من يغش القهوة من التجار.
إلا أن فوزي يرجح أن القهوة الرديئة التي يشعر بها المستهلكون غالبًا ما يكون مصدرها "مصنع قهوة غير مرخص يديره دخلاء على المهنة".
ترشيد الاستهلاك أو انخفاض الدولار
ديانا جرجس، التي تعمل في صناعة الشموع الطبيعية المعطرة، تقدّر تكلفة البن الشهرية بالنسبة لها في حدود الـ1200 جنيه، ما يكفي بالكاد لاستهلاك ما بين 3 إلى 4 فناجين في اليوم، وتعتبرها ضرورية للتركيز في العمل، "هذه ميزانية لا يمكن توفيرها بسهولة في ظل الغلاء الذي تمر به البلاد".
وارتفع التضخم بشكل متسارع خلال العام الماضي، بلغ ذروته في سبتمبر/أيلول عندما تجاوز مستوى 40%، وتراجع تدريجيًا خلال الأشهر التالية قبل أن يعاود الصعود في فبراير الماضي إلى 36%.
حاولت ديانا تغيير نوع قهوتها أكثر من مرة سعيًا للتوفير، لكن رداءة طعم البدائل لم تساعدها على التركيز في عملها بالدرجة نفسها، فانتهى بها الحال إلى تقليل الاستهلاك.
"في السابق كنت أقوم بصناعة شموع معطرة برائحة البن من حبوب البن، ومع الغلاء ألغيت ذلك تمامًا، بسبب تكلفة إنتاجها"، توضح ديانا.
وعن المخرَج من هذه الأزمة، يقول فوزي "لا توجد بدائل متاحة أو حلول لخفض سعر البن، سوى انخفاض سعر صرف الدولار ولو بشكل تدريجي، أو انخفاض سعر البن الخام في البورصات العالمية، أو زيادة المعروض في البن عالميًا".