في الحوارات والمناكفات اليومية بين الناس في مصر، يحدث أحيانًا انحراف عن جوهر النقاش، لينشغل المتحاورون أو المتشاكسون بأشياء جانبية، قد تكون متعلقة بالأسلوب دون المضمون، والمظهر دون الجوهر.
كثيرًا ما رأينا أحدهم يقف في مؤتمر أو إطلالة تليفزيونية، فتترك الأغلبية ما يقول وتذهب إلى طريقته في الحديث، أو تلتقط خطأً في لغة الجسد، أو تقتطع إحدى عباراته من سياقها، أو تحيل إلى موقف أو قول سابق له وتمنحه القدر الأكبر من الاهتمام.
عبّر مثل مصري دارج عن هذا "قال له يابا علمني الهيافة. قال له تعال في الهايفة واتصدر". ومعناه أنَّ الطرق السطحية في مقاربة الأشياء ممارسةٌ يمكن تعلمها، ولا تحتاج من الشخص سوى الانشغال بقشور الأمور، والدفاع عنها وكأنها النواة الصلبة للأشياء، سواء كان هذا طبعًا في الشخص، أو حيلةً للوصول إلى ما يريد، أو التعمية على ما يريده الآخرون.
إنَّ انحراف الأحاديث له أثر سيئ، أو ثمن يخصم مما يجب أن يبنيه النقاش العام من قدرة على فهم المشكلات وتشخيصها، وتقييم الحلول التي تقدمها السلطة السياسية، لكنَّ هذا النوع من الأثر يصبح أكثر فداحة حال كان الأمر متعلقًا بإدارة الشأن العام، من قبل أشخاص أو مؤسسات.
تنظر السلطة إلى كل مشكلة باعتبارها مسألةً أمنيةً فتتعامل معها من خوف يقود إلى تجبر
فالسلطة التي تصر على مواجهة "العَرَض" وترك "المرض" لا يمكنها أن تقدّم حلولًا ناجعةً لمشكلات مجتمع تديره، بل لا يمكنها أن تحظى بثقة واحترام الشعب، الذي سرعان ما يكتشف أنها تهرب من مواجهة الحقائق إلى التعمية عليها بإثارة مسائل فرعية، وتبدو في هذا المقام أشبه بمن يهيل التراب على شيء فيغطيه كي لا نراه، أو يحثو الغبار في عيون الناس فلا يرون ما يقرره.
صور التعامي
يأخذ الانشغال بالعرض عدة صور، ربما أكثرها رواجًا التركيز على الشخص وليس القضية، أي الالتفات التام إلى "من قال؟" وليس "ماذا قال؟"، وهذه واحدة من المغالطات المنطقية التي تمارس بتوسع ظاهر.
فما إن يطرح أحدهم فكرةً، أو يوجِّه نقدًا لأداء السلطة، ويكون من معارضيها أو المختلفين معها، حتى تسارع السلطة، من خلال الأقلام والألسنة التي تنطق باسمها أو تدافع عنها، لتلتقط أيَّ شيءٍ سلبيٍّ أو غريبٍ في حياة صاحب الفكرة المغايرة، وتسلط الضوء عليه.
وفي هذا النوع من الرد تضييعٌ للفرص، فضلًا عما به من التجني والافتراء، فأتباع السلطة حين يركزون جهدهم في الهجوم على من ينتقد سياساتها أو يقدم تصورات بديلة، دون النظر فيما أحدثته هذه السياسات من آثار ضارة بالدولة متوهمين أنَّ هذا الهجوم حل، إنما يفوتون فرصة الاستفادة من طرح عقول أخرى، ويمعنون في إدارة الفشل.
صورة أخرى قد يأخذها هي التركيز على مظاهر الأزمة وإهمال جوهرها، مع تضخيم عيوب الأشياء وإخفاء مزاياها أو نكرانها. والمثل الصارخ هنا هو "النمو السكاني"، الذي يتم تحميله على الدوام نتائج الإخفاق في إدارة الموارد البشرية والطبيعية.
فكلما طالب الشعب بتحسين أحواله ردت السلطة: كيف هذا وشعبنا يزيد كل سنة بمعدل كبير؟ ومثل هذا الرد يركز على "العرض"، حيث يتم التعامل مع السكان كمشكلةٍ وليس حلًا، وعبءٍ وليس ميزة، بل تبدو في الحقيقة مجرد ذريعة لتبرير الفشل وتبرئة الفاشلين. فالسكان، إن أُحسنت إدارتهم، ولم يهمل الكيف إلى جانب الكم في التعامل معهم، تحولوا إلى القوة الأساسية لأي دولة.
ثالث هذه الصور، يتجلَّى عندما يؤدي الانشغال بالعرض إلى العلاج غير المناسب للتوعك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي الذي يصيب الدول. فمثل هذا الوضع يكون أشبه بتقديم مخفِّض حرارة لجسد ألهبه مرض عضال، ثم التوهم أنَّ هذا يكفي لجلب الشفاء. ووفق هذا التصور تنظر السلطة إلى كل مشكلة أو أزمة باعتبارها مسألةً أمنيةً بالأساس، فتتعامل معها من زاوية خوف يقود إلى تجبر.
فمثلًا إن احتج عمال أحد المصانع اعتراضًا على فساد أو فشل إدارة، أو تأخر الحصول على الحقوق أو بغية تحسين ظروف العمل، نظرت السلطة إلى ما يجري على أنه استجابة لتحريض عناصر مسيسة بين العمال، ولذا يكون العلاج بعقاب هؤلاء بالفصل أو الاعتقال، وليس بمواجهة الفساد والإخفاق.
ومع الانشغال بالأعراض الجانبية تبرز الصورة الرابعة، في غابة التشريعات والقوانين التفصيلية. فالسلطة السياسية لا تعتبر المشكلات ورطةً أمنيةً فحسب، بل هي أيضًا نتاج فراغٍ تشريعيٍّ، ولذا تطلب ممن أطلقت عليهم المعارضة "ترزية القوانين" ليسدوا ما يرونها ثغرات، وهم في هذا لا ينحازون للمصلحة العامة بالضرورة، إنما إلى منفعة السلطة بالأساس من كل قانون يُسَن وتشريع يصدر.
إن كل مشكلة لها أعراض عديدة، تتناسل بطبيعتها دون انتهاء. وقد تتعدد هذه الأعراض على قدر عدد المتأثرين بهذه المشكلة. ومن ثَمَّ فإنَّ سنَّ قانونٍ لكل عرض، وتوهَّمَ أنَّ في هذا حلًا ناجعًا، يؤديان بمرور الوقت إلى ترك الأزمة تشتد، فيخسر المجتمع على الدوام، وتخسر السلطة أحيانًا، وقد تدفع ثمنًا باهظًا لهذه المقاربة الخاطئة.
الطلاء ليس أهم من الجدار
ومع الانشغال بالعرض دون المرض، يهرب الناس من مواجهة الحقيقة بذرائع يمكن تسويقها على نطاق واسع، وبعضها ينطلي على قواعد جماهيرية ليست بالضيقة. ومن الأمثلة في هذا الشأن مصادرة السلطة في مصر للحريات العامة، وتفريغ المشاركة السياسية من مضمونها، وإهدار الفصل بين السلطات، والتوسع في القوانين الاستثنائية، ثم إعطاء ظهرها للدستور، بدعوى أن هذا لا يضني الشعب ولا يهمه، إنما ما تشغله هي أحواله الاقتصادية.
تزعم السلطة أنَّ هذا هو جوهر حقوق المواطن، ورأينا رئيس الجمهورية نفسه يواجه الغرب بهذا الخطاب حين طالبه بالاهتمام بحقوق الإنسان، على اعتبار أنَّ توفير العيش الكريم هو في قلب حقوق الأغلبية، التي لن تتضرر بسجن بضعة آلاف، أو فرض رقابة صارمة على الصحف، أو تقييد الأحزاب السياسية والشخصيات العامة.
ويجاري كثيرون في مصر هذا الخطاب، بالرغم من أنَّ التجربة التي عركت الناس، في العقد الأخير خصوصًا، برهنت على أنَّ عجلة الاقتصاد لا تتقدم إلا على قضبان سياسية متينة. فالسياسة ليست عاملًا هامشيًا، إنما هي في قلب التنمية، وكلُّ تجربة تنموية نُزعت السياسة منها أو أُميتت، انتهت إلى إخفاق حتى لو حققت نجاحًا في البداية.
إنَّ استمراء التعامل مع العرض دون المرض يؤدي، مع طول المدة، إلى ترسيخ ثقافة الهروب، حيث لا نواجه المشكلة ولا نتصدى للتحديات. وهنا ترى السلطة أنَّ الدعاية بديلٌ للوقاية، والطلاء أهم من الجدار، والرضاء السريع الكاذب أفضل من الرضاء الصادق الذي يستغرق وقتًا، ويحتاج إلى جهد كبير، سواء في العمل أو الإقناع.
ولكنَّ الدول تدفع ثمنًا باهظًا لهذه الثقافة، مع تراكم التحديات، حتى لو استفاد النظام الحاكم منها بعض الوقت. وليس هناك ما يمنع من أن يدفع النظام نفسه مثل هذا الثمن، مع فقدان الثقة في قدرته على التعامل الناجع مع الأمراض المستعصية.