أبدأ كتابة هذا المقال في اليوم التالي لمذبحة مستشفى المعمداني في غزة. لا أعرفُ تحديدًا عن أي شيء سأكتب، لكنني أعرف ضرورة أن نكتب جميعًا عن فلسطين، وعن الدم الفلسطيني، حتى وإن لم نقل جديدًا، على أمل ألا ننساه، ألا يصبح هذا الدم المستباح مجرد خبر، أو "نتيجة لأحداث" ننشغل عنها بعد أيام، لنتذكرها مجددًا مع المذبحة التالية.
استعرت في المقال السابق بضع كلمات من محمود درويش تتحدث عن شاعرية الهزيمة. كُتب المقال قبل عملية المقاومة الفلسطينية صباح السبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وقبل بداية الحرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وافتتاح حلقة جديدة من مسلسل إبادته.
لكن لا محل الآن لكلمات درويش عن شاعرية الهزيمة، فلا زاوية شاعرية لرؤية هذا الدم الكثير، المهدر دائمًا، حتى وإن تباهى أمام عدوه ببحثه عن شاعر طروادة، وبأنَّه شاعر المهزومين، بالرغم من وعيه، دون شك، بالثقل المرعب لدم شعبه، وبأنْ لا شاعرية في كل هذا الموت، وبأنَّ الكتابة عن كثافة الدم الفلسطيني، وتجسيده حقيقة، مستحيلة.
من أكبر اللعنات في الكون أن يولد الإنسان فلسطينيًا، أن ينتمي بصدفة الميلاد لشعب ملاحق ومطارد ومقتول. لكننا، نحن العرب والفلسطينيين، شعرنا هذه المرة ببعض التشفي والفخر، حتى لو لم نبح بهما علانية، فهذه المرة مختلفة عن المرات السابقة، التي قُتل فيها أطفالنا لمجرد أن إسرائيليًّا واحدًا شعر بالتهديد، ودون أن نشعر بأننا آلمنا عدونا.
هذه المرة استطاع الفلسطيني، قبل المذبحة، أن ينفذ عملية بطولية، وأن يؤلم الإسرائيلي حقيقة. أن يهينه، وأن يأخذ منه الكثير من الأسرى، وأن يُشكِّك في منظومته الأمنية، وأن يخلق واقعًا جديدًا تمامًا، مبنيًّا على حقيقة أننا نستطيع ملاحقة العدو وإيلامه في أي مكان سيتواجد به، وأن دم أطفالنا، المقتولين دومًا، ليس أرخص من أي دم آخر. وخلق من جديد شعورًا طاغيًا عند شعوبنا بأن إسرائيل عدونا، وأن فلسطين تخصنا حقيقة.
حيث انتصرنا يومًا
ربما أخادع نفسي عندما أقول إن هذه المرة مختلفة بالرغم من هذا الدم الكثير، الذي تصل رائحته لكلِّ من لم يفقد حواسه على هذا الكوكب. ربما يكون منبع الخدعة أنني أكتب الآن من كوبا، حيث انتصرنا يومًا على الأمريكيين، وضمير الجمع في "انتصرنا" العائد على شعوبنا المهزومة عادة مقصود، ومن حقنا، عندما انتصر الشعب الكوبي لنا، مطلع 1959، على الأمريكي الداعم والممول لعملية ذبحنا، بالرغم من آلاف الكيلومترات التي تفصل كوبا عن غزة.
لأول مرة منذ أعوام طويلة أشعر بالذنب من وجودي في كوبا، فيما تحدث المذبحة. السفر للعمل في ظروف معيشية قاسية نسبيًا لا يخفف هذا الشعور النابع من الابتعاد مكانيًا عن المذبحة. لكنني أتحايل عليه بالانتباه إلى أنه شعور معمم على الملايين مِن غير الفلسطينيين، مَن يشعرون بالذنب لمجرد أنهم لم يولدوا فلسطينيين، بينما قلوبهم ووجدانهم وعقولهم هناك، ويستنشقون رائحة "طبخة" ما تجري بين حكامنا وإسرائيل والولايات المتحدة على حساب الشعب الفلسطيني ودمه، ولا نعرف كيف نفسدها عليهم.
قررت في اليوم الأول من ورشتي هنا في كوبا أن أعرض فيلمًا إسرائيليًا لا أعرضه عادة في بدايات الورش السينمائية التي أُدرِّسها للأوروبيين واللاتينيين، فأغلبهم لا يعرف الكثير عن الصراع العربي الإسرائيلي، ولا يعنيه حقيقة. لكنني عرضته هذه المرة لأتحدث مع الطلاب عن فلسطين.
الفيلم هو فالس مع بشير (2008)، للإسرائيلي آري فولمان، الذي أثار استحسانًا أوروبيًا جاهلًا وقت عرضه وفوزه في مهرجان برلين، على اعتبار أنه يقدم مروية غير صهيونية، ومختلفة عن المرويات الإسرائيلية التقليدية، لغزو لبنان 1982، وحصار بيروت الغربية، ومذبحة صبرا وشاتيلا.
بطل فيلم التحريك، المقدم كفيلم تسجيلي، هو المخرج نفسه، الذي كان جنديًا مراهقًا شارك في غزو لبنان. لا يتذكر المخرج/الجندي السابق أي شيء من ذلك الصيف الساخن المعبأ بالدم. فيبدأ رحلة فيلمية لاستعادة ذاكرته، وليعرف إن كان مشاركًا بشكل أو بآخر في المذبحة، عبر مقابلات مع زملائه وآخرين عاشوا بدورهم نفس الأحداث.
الحجة الدرامية للفيلم بسيطة، وخادعة، وهي أن المخرج لا يتذكر. أما صديقه فيتذكر مشهدًا وحيدًا عاشاه معًا. مشهد مؤرق يأتيه في الكوابيس؛ قتلهم بضعة كلاب عند مدخل قرية ذهبوا إليها ليلًا بحثًا عن "الإرهابيين الفلسطينيين".
لنتجاهل وقاحة أن يؤرقهم قتل كلب ولا يؤرقهم قتل طفل، وكل الإجرام المتمثل في تلك الفكرة، وكل الإجرام المتمثل في اللعنة المستمرة إن ولد الإنسان فلسطينيًا، أو لبنانيًا. فعبر الرحلة التي يخوضها المخرج لإعادة تشكيل الذاكرة الضائعة، ينفي الذاكرة الحقيقية، يُشوهها عبر عدد من الأكاذيب الصغيرة والكبيرة، والتغيير في الجغرافيا وترتيب الأحداث التاريخية، لنصل كمتفرجين إلى نتيجة كارثية عبر المرويات المتناقضة، أنَّ الذاكرة بطبيعتها مشوشة وخادعة، تختلط فيها الحقائق بالخيال، فيصعب الوثوق فيها.
وبما أنه لا توجد حقيقة موثوق فيها، فجميعنا ضحايا؛ هذا الجندي الفاقد للذاكرة، وهؤلاء الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين المقتولين في المخيم، وأولئك الجنود الإسرائيليين المتحلين بالبراءة واللطف، الذين لن يعودوا لحياتهم الهادئة مع أهلهم في تل أبيب.
ولأن قالب التحريك الذي اختاره المخرج جميل ومبهر، لم يسأله النقاد السينمائيين الأوروبيين عن غياب تفصيلة درامية ضرورية لفهم سياقه، وهي "ماذا يفعل الجيش الإسرائيلي في لبنان؟!"، "لماذا تدخل دباباتكم بلدًا آخر؟!"، و"لماذا تقصفه طائراتكم؟!". هي الحرب وفقط. والحرب، دون أي شاعرية، تكون بين طرفين كلاهما مذنب بدرجة ما، فيتحول الغازي/القاتل/المغتصب، لمجرد طرف في حرب بين طرفين، فلا نعرف سبب المذبحة، لا نعرف لماذا نُقتل، نعرف وجه القاتل، ونتعاطف مع نسخته الهوليودية، بينما نحن مُجهليَّن، تُحوِّلنا الحرب لأشباح بلا ملامح يراها المتفرجون من بعيد.
صرخت امرأة أمام الكاميرا "بدنا تنظيم أسرة؟! باسم كل الفلسطينية ملعون أبو تنظيم الأسرة"
بعد عرض الفيلم، وقبل أن أحلله وأفكك أكاذيبه، وبعد أن نبهت الطلاب إلى أنني منحاز، فأنا مصري/عربي ومنتمٍ لفلسطين، عبَّر الطالب المكسيكي عن قلقه من الفيلم، وأن به شيئًا غير مريح وإن لم يدركه بوضوح. أما الكاتالاني/الإسباني فقال "بحكم خلفيتي السياسية فأنا لا أصدق الإسرائيلي". فيما تباهت الطالبة الكولومبية بموقف رئيس بلدها الداعم لفلسطين، وقالت بينما تنظر مباشرة لعيناي "ما يحدث هو عملية تطهير عرقي منظمة وممنهجة لشعب كامل منذ عقود".
هديل
أخرج من حجرة الدرس راضيًا للمرة الأولى منذ أيام، لأجد أحد حراس مدرسة السينما الفقراء جالسًا أمام التليفزيون، يتابع على قناة محلية تقارير إخبارية متتالية عن ذبح إسرائيل لشعبنا بدعم أمريكي. أُخبره بأنني كنت هناك، وأوشك أن أحدثه عن هديل، لكنني لا أعرف لمَ لمْ أفعل، بل شاركته فعل المشاهدة الصامت لدقائق، وغادرت.
في ربيع عام 2006 زرت قرية صغيرة اسمها بتير بالقرب من بيت لحم في الضفة الغربية المحتلة، لأصور مع امرأة أنجبت سبع فتيات ولم تنجب ذكرًا واحدًا. ذهبت للبحث عن قصة تلك المرأة في مجتمع قروي يرحب أكثر بالمولود الذكر .
قبلها بأيام صرخت امرأة أمام الكاميرا "بدنا تنظيم أسرة؟! أنا بقِّلك باسم كل الفلسطينية ملعون أبو تنظيم الأسرة. ما دمنا محتلين هانضلّ نخلف ونجيب ولاد، ونخلف ونجيب ولاد، ونخلف ونجيب ولاد". وحين وصلت لمنزل أم الفتيات السبع، كان أول ما رأيته بين الخراب طفلة صغيرة، عمرها خمسة أو ستة أعوام، بوجه بالغ الجمال والعذوبة، ترتدي زيًا فلاحيًا فلسطينيًا تقليديًا، تتأرجح فوق أرجوحة صنعها أبيها. كان شعرها يطير خلف ظهرها في حركتها الرتيبة على الأرجوحة، وكان اسمها هديل.
لم أرها من يومها، منذ ذاك اليوم الذي لَعِبت فيه أمام الكاميرا مشاكسة الجميع، قبل أن تجلس متباهية بثوبها الفلاحي الفلسطيني بجوار جدتها المرتدية لثوب مماثل. مرت 17 عامًا، لا بد أنها اليوم في بدايات عقدها الثالث، غير أنني لا أستطيع أن أتخيلها إلا بهيئة الطفلة.
أعرف لماذا أردت إخبار الحارس عن هديل؛ فمع كل مذبحة جديدة، يتحول وجهها إلى هاجس لا يفارقني. هاجس مترجم إلى أسئلة كثيرة؛ واقعية جدًا، لا شاعرية فيها، ولا إجابات لها.