عندما يهدأ الغبار بنهاية الشهر؛ سترتفع الأعداد المؤكدة لضحايا زلزال جبال الأطلس في المغرب، وفيضان درنة في ليبيا لعشرات الآلاف، بين قتلى وجرحى ومفقودين، ناهيك عن مئات آلاف المتضررين ممن فقدوا ممتلكاتهم أو سبل معيشتهم.
للقدر ضرباته ولا يمكن تفاديها، وللطبيعة كوارثها المعروفة من عواصف وأعاصير وزلازل وبراكين، ولكن هناك سبل عديدة ومتنوعة للاحتياط من تلك النوازل وتقليل خسائرها، ثم التدخل العاجل لمساعدة ضحاياها. وفي الحقيقة فإن نسبة لا بأس بها مما نسميها نوازل الطبيعة، يُساهم البشر بسلوكهم الاقتصادي والاجتماعي في صنعها ومفاقمة آثارها المدمرة.
هكذا كان الأمر في زلزال الأطلس وفيضان درنة، فهناك أصابع اتهام يمكن توجيهها للبشر عوضًا عن الطبيعة، خاصة المسؤولين والحكومات والنخب المهيمنة ليس في بلادنا فحسب، بل في أماكن عديدة حول العالم، بات سكانها يعانون أكثر فأكثر من الأعاصير المفزعة، والفيضانات المدمرة، والحرائق الضخمة، وموجات الجفاف المهلكة.
ببساطة، يمكن القول بأن البشر، وليس القدر، يتحملون جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن تلك الزيادة الهائلة في عدد الضحايا. هناك قدر لا بأس به من المسؤولية البشرية عن تفاقم ظواهر بعينها، مثل ارتفاع درجات الحرارة (الاحتباس الحراري)، والبناء دون مراعاة عوامل التربة والتضاريس، خاصة بين المرتفعات وعلى سفوح الجبال وفي مجاري السيول، وتدني التخطيط والإعداد لعواقب الكوارث خاصة في المناطق النائية الأكثر فقرًا.
ماذا جرى في المغرب وليبيا؟
كان الزلزال الذي ضرب جنوب المغرب في يوم 9 سبتمبر/أيلول الأشدّ من نوعه منذ أكثر من 120 عامًا، بالغًا 6,8 درجات على مقياس ريختر بحسب المعهد الجيوفيزيائي الأمريكي، و7 بحسب المركز الوطني للبحث العلمي والتقني المغربي، وكان مركزه في إقليم الحوز في قلب مرتفعات جبال أطلس على بعد 72 كيلومترًا جنوب غرب مدينة مراكش.
لو كان هناك إشراف حكومي منتظم في ليبيا الممزقة بين حكومتين، لربما انتبهت الأجهزة المعنية لتقرير حذر من الكارثة قبل عام
وهذه أقاليم ومناطق جبلية وعرة وفقيرة نسبيًا تسكنها أغلبية من الأمازيغ، وطالما كان الوصول إليها صعبًا، والخدمات العامة فيها متدنية فيما يتعلق بالطرق والنقل والمستشفيات والإنقاذ، الأمر الذي ساهم في رفع عدد الضحايا لنحو الثلاثة آلاف قتيل، وأضعافهم من الجرحى، إضافة لمئات آلاف خسروا ممتلكاتهم ومصادر رزقهم.
مُحيت العديد من القرى تمامًا، بينما لبث ناجون أيامًا طويلة يحفرون الركام بمعاول ضعيفة، وبأيديهم سعيًا لإنقاذ أحباء تحته، ثم عندما فقدوا الأمل في بقاء من اختفوا على قيد الحياة؛ صاروا يحاولون استعادة ممتلكاتهم البسيطة من تحت الأنقاض.
أيام طويلة وثقيلة حتى وصلت مساعدات الحكومة عبر طرق متصدعة، تعوق انهياراتها بفعل الزلزال حركة الشاحنات والمعدات الثقيلة. ولم تقبل حكومة المغرب سوى فرق بحث وإنقاذ من أربع دول، ورفضت قبول المساعدات الإنسانية عمومًا، وتجاهلت عروضًا من فرنسا والجزائر اشتمت فيها غرضًا سياسيًا .
وبعد زلزال الأطلس بخمسة أيام، انهارت جدران سدَّين يحميان مدينة درنة الساحلية الليبية، التي تقع على بعد 100 كيلومتر شرق بنغازي، بسبب سوء الصيانة وهطول غير مسبوق للأمطار زاد من الضغط عليهما، فاندفعت مئات الأطنان من المياه في طوفان بلغ ارتفاعه نحو العشرين مترًا في بعض التقديرات.
وفي طريقه نحو البحر جرف معه مبانٍ وسيارات وممتلكات وقتل قرابة 12 ألف شخص، بينما ما يزال نحو عشرة آلاف في عداد المفقودين. ووضعت هذه الأرقام المبدئية طوفان درنة في مرتبة الأسوأ من نوعه في القارة الإفريقية منذ أكثر من 120 سنة.
شُيد سدَّا درنة وأبو منصور منذ نحو خمسين عامًا، ويبدو وفقًا لعدة تقارير أنهما افتقرا للصيانة الواجبة لمدة طويلة، خاصة وأن نهر وادي درنة الذي تتدفق منهما المياه إليه يصبح شبه جاف في تلك الفترة من العام، ولكن عاصفة دانيال التي أدت لهطول غير مسبوق للأمطار حولت الوادي لنهر عميق عرضه مئة متر، جرف معظم ما كان في طريقه.
ولو كان هناك إشراف حكومي منتظم ورقابة فعالة في ليبيا، الممزقة شرقًا وغربًا بين حكومتين، لربما انتبهت الأجهزة المعنية لتقرير نشره العام الماضي الباحث عبد الونيس عاشور في جامعة عمر المختار، وحذر فيه من تزايد التهديدات لوادي درنة بسبب الفيضانات المحتملة، التي وقعت عدة مرات في العقود القليلة الماضية، وإن كانت أقل شدّة بكثير مما جرى هذا الشهر. ودعا عاشور لاتخاذ خطوات عاجلة لضمان الصيانة الدورية للسدود محذرًا من أن أي فيضان ضخم؛ ستكون له نتائج كارثية على الوادي والمدينة.
وقبل الفيضان بثلاثة أيام حذرت هيئة الأرصاد الجوية الليبية من قدوم العاصفة، وأُعلنت حالة طوارئ في بعض مناطق شرق البلاد، وإن يبدو أنها لم تؤدِّ لإجراءات فعلية واسعة على الأرض للحماية من الخطر وتقليل الخسائر المحتملة، كما أنه كان من المستحيل فعليًا توقع مدى قوة العاصفة، ولا أن معدل الأمطار سيكون عشرات أضعاف المعدلات المعتادة.
وتهب عواصف المتوسط سنويًا، ولكنها لا تصل لشدة الأعاصير الاستوائية المدمرة عادة. غير أن الاحتباس الحراري بدّل أنماط المناخ في المنطقة وفي العالم، فارتفعت حرارة البحر المتوسط درجة ونصف على مدى الأربعين عامًا الماضية ووصلت لمستوى قياسي في فصل الصيف الحالي، الأمر الذي يؤدي لتبخر سريع لمياه البحر وزيادة في الرطوبة ومعدل أعلى بكثير لسقوط الأمطار في حالة الأعاصير.
هذا ما جرى بالضبط في عاصفة دانيال. وتوقع تقرير حديث للجنة الدولية الحكومية للتغير المناخي التابعة للأمم المتحدة، تحولًا في عواصف جنوب المتوسط لتصير أقلَّ عددًا وأكثر حدة، وأن يتحول بعضها من عواصف شديدة الرياح لأعاصير مدمرة.
مسؤولية البشر!
وعوضًا عن الاكتفاء بمعرفة الأسباب الطبيعية المباشرة لوقوع هذه الظواهر ومساهمة البشر غير المباشرة فيها، بسبب الاحتباس الحراري الناجم عن الإفراط في استعمال الطاقة، يتعيَّن علينا أيضًا توجيه اهتمام أكبر للاستعداد لهذه الظواهر المستمرة، سواء البطيء منها أو المفاجئ، ومحاولة الحد من آثارها السلبية.
النخب الحاكمة في مصر وفي المنطقة، تمعن في إهمال المدن القديمة والمناطق الزراعية، لحساب مدن جديدة وأحياء مسوّرة
صحيح أن التنبؤ بالزلازل غير ممكن، ولكن يمكن تعديل قواعد البناء، وخاصة للأبراج المرتفعة، وفي الأماكن المعرضة للزلازل في المنطقة، بحيث تكون أكثر أمانًا عند تعرضها لهزات، ويمكن إعداد خطط سريعة وناجعة لمساعدة الضحايا بعد الكارثة.
وربما حان الوقت أيضًا للاهتمام بالكوارث الطبيعية بطيئة التأثير؛ مثلما يحدث حاليًا في سواحل المتوسط، حيث تتحدث دراسة أممية عن اختفاء مساحات ضخمة من أراضي الدول المطلة على البحر، بما فيها دلتا النيل وشواطئ مصر المتوسطية، في العشرين عامًا المقبلة.
وتوقعت الدراسة الأممية اختفاء ثلث مدينة الإسكندرية على الأقل تحت سطح البحر بحلول 2050، ليُجبَر ربع سكان المدينة على النزوح. وفي أسوأ السيناريوهات تتوقع اللجنة الدولية الحكومية للتغير المناخي التابعة للأمم المتحدة أن ترتفع مياه المتوسط نحو متر واحد في العقود الثلاثة المقبلة، مما قد يعني ضياع ثلث الأراضي الزراعية الخصبة في دلتا النيل.
وحتى في أفضل السيناريوهات فمن المتوقع أن ترتفع مياه المتوسط بنحو نصف متر على الأقل في الربع قرن المقبل. وبمقارنة شواطئ مصر الحالية بوضعها في الستينيات على سبيل المثال فقد توغلت مياه البحر نحو ثلاثة كيلومترات داخل الأرض.
ولكنَّ ذلك كله ليس قدرًا محتومًا، فهناك لا شك سياسات وطنية مطلوبة يمكنها تقليل الأثر المهول لهذه الكارثة الطبيعية الزاحفة، غير أن النخب الحاكمة في مصر وفي المنطقة، تمعن في إهمال المدن القديمة والمناطق الزراعية، مُركِّزة جهودها على مدن جديدة وأحياء مسوّرة، وتتجاهل أنَّ اختفاء هذا الكم الهائل من الأراضي الزراعية أو المدن الساحلية، لن يضرّ سكان هذه المناطق فحسب، بل سيوجه ضربات موجعة للاقتصاد ويهدد عمل موانٍ حيوية، ويجبر ملايين الأشخاص على النزوح والتردي في هوة الفقر أكثر.
ولكن دون اتفاقات وترتيبات دولية تقلل من الاحتباس الحراري، باعتباره المسؤول الأساسي عن ارتفاع مستوى مياه البحر، ستعجز كل دولة بمفردها عن تفادي هذه الكارثة أو إبطاء معدلاتها، ولن يكون أمامها سوى السعي لتقليل آثارها.
ولذا فهناك أسباب كثيرة لبذل مزيد من الجهد على الصعيد الدولي بقدر ما هناك أسباب للخوف المتزايد، خاصة مع فشل مؤتمرات المناخ السنوية في إنجاز تحولات ضخمة مطلوبة، خاصة للسيطرة على ارتفاع درجات الحرارة الكونية بالمعدلات الكافية، لإيقاف ذوبان ثلوج القطبين، وتجميد ارتفاع درجات حرارة البحار والمحيطات، التي تهدد ملايين البشر والأفدنة بالغرق.