بالأمس، مرت الذكرى الـ 71 لحركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952، اليوم الذي بدأت بعده سلسلة من التغييرات في النظام السياسي؛ من ملكية إلى جمهورية، ومن تعددية سياسية إلى حزب واحد، ومن ممارسة سياسية "شبه حرة" إلى أخرى مقيدة، لكن التغيير الأهم الذي فرضته جمهورية يوليو هو العقد الاجتماعي.
ذلك العقد الذي استمر ساريًا حتى حاول المصريون تغييره في ثورة 25 يناير 2011 بعد أن سيطرت مفاهيم وممارسات سياسية جديدة على العالم المعاصر، وتفتح وعي أجيال جديدة نتيجة للتقدم التكنولوجي، وتقادمت المفاهيم التي حملتها 23 يوليو وأضحت تحتاج إلى تغييرات كبيرة.
في العقد الاجتماعي الذي رسخته يوليو 52 نصوص واضحة، رغم أنها غير مكتوبة، اختلفت في التطبيق وفي التفاصيل من رئيس لآخر، واختلف انحياز الرؤساء الاجتماعي، لكنها ظلت مستمرة في خطوطها العامة، من جمال عبد الناصر حتى حسني مبارك.
كان "عقد يوليو" قائمًا على فكرة بسيطة مفادها أن تُقدم السلطة للمواطن الخدمات الضرورية، والمستوى المقبول من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في مقابل تقييد الحريات السياسية، ورفض تداول السلطة، والحكم عبر انتخابات شكلية لا تفضي إلى تغيير سياسي جاد أو حقيقي. والمدهش أن الغالبية من الناس ارتضوا بقواعد العقد، موافقين أو مضطرين لا فرق، فالنتيجة النهائية هي الابتعاد عن السياسة، والاكتفاء ببعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
"لا علاقة لك بالسياسة".. هذا مُلخص معبّر.
بسياسات اقتصادية غير رشيدة وقمع سياسي كبير، جرى الانقلاب على عقد دولة يوليو
في أعقاب ثورة 25 يناير الخالدة، طالب الشعب المصري بسقوط العقد الاجتماعي الذي يحرم الملايين من المشاركة في شؤون بلدهم، وأعلنوا رغبة جارفة في الانخراط في العمل العام والشأن السياسي، وضغطوا عبر الملايين المحتشدة في ميادين التحرير من أجل إنهاء "الحكم الفردي الاستبدادي"، واستبداله نظامًا سياسيًا قائمًا على التعدد، لا يحرم المواطن من حقه في العمل العام، ولا يقف فيه الفرد في خانة المتفرج ليحصل فقط على حقه في الأكل والعلاج والتعليم والخدمات، ولا يحرم أي مواطن من الاشتغال بالشأن العام.
لم يستمر ما طالب به المصريون في يناير إلا فترة قصيرة، إذ انتكست الثورة بعدما تكالب عليها خصومها من كل اتجاه، وعاد العقد الاجتماعي القديم كمان كان وأكثر، لا سياسة ولا حريات، وكل ما على المواطن هو انتظار ما تفعله السلطة التي تملك مفاتيح كل شيء.
المفارقة أن العقد الاجتماعي الذي رسخته "الجمهورية الجديدة" غير واضح المعالم، فلا يسمح بالممارسة السياسية الديمقراطية ولا بمساحة مقبولة من الحريات العامة، ولا يمنح المواطن حقه في مستوى معيشي لائق وكريم، وخدمات جيدة ومنخفضة الثمن.
بسياسات اقتصادية غير رشيدة وقمع سياسي كبير جرى الانقلاب، لا على شعارات يناير الكبرى فقط، بل على العقد الذي رسخته دولة يوليو ذاتها.
ولعل ما حدث لقيمة العملة المحلية، وارتفاع التضخم، وغلاء الأسعار على نحو غير مسبوق، مؤشر واضح لما جرى من تلاعب في العقد الاجتماعي؛ القائم على الدعم مقابل الابتعاد عن السياسة.
توفير الغاز للتصدير أولى وأهمّ عند السلطة من ضمان حياة الناس في أجواء إنسانية
ولكن ما العقد الاجتماعي القائم بين السلطة والمواطن في مصر الآن؟
انقطاع التيار الكهربائي المستمر منذ أكثر من أسبوع، هو المؤشر الأبرز لعدم وجود عقد اجتماعي يحدد التزامات السلطة تجاه المواطنين، فلم تعد فاتورة الكهرباء المدعومة قائمة، وزادت شرائح الكهرباء على المواطنين بدرجة كبيرة خلال السنوات الأخيرة، ومع ذلك فإن تلك الزيادات لم تشفع للناس وترحمهم من انقطاع يومي ومتكرر للتيار الكهربائي في حر يوليو/تموز الخانق.
وهنا المعنى الأوضح لغياب كل دور اجتماعي للدولة، والذي كانت تستخدمه بموجب العقد القديم لكي تساوم الناس، وتمنعهم من ممارسة السياسة، أو المطالبة بالحريات العامة، ناهيك عن تداول السلطة.
والمثير في الأمر أن تصريحات المسؤولين تتحدث بكل صراحة عن أن أزمة الانقطاع وراءها عدم توافر الغاز الذي تدار به شبكات الكهرباء، وهو ما يعني أن توفير الغاز للتصدير والحصول على العملة الصعبة أولى وأهم عند السلطة من ضمان حياة الناس في أجواء مريحة وإنسانية.
قبل أزمة انقطاع الكهرباء بعدة أشهر ظهر المؤشر الثاني في تبديد السلطة الحالية لعقد دولة يوليو، فرغم أن التموين المدعوم قلّ خلال السنوات الأخيرة بشدة، ورغم التراجع الواضح في أعداد بطاقات التموين التي كانت تساعد الأسر الفقيرة والمتوسطة وتعينهم على الحياة، فإن أسعار المواد التموينية زادت أكثر من مرة، آخرها قبل شهور قليلة، ووصل إلى السلع التي تهم المواطنين بشكل مباشر؛ الأرز والسكر والزيت والمكرونة والدقيق وغيرها، زيادات بنسب متفاوتة، وأعلنت وقتها وزارة التموين الأمر بشكل رسمي.
المواد التموينية والكهرباء المدعومة كانتا في القلب من العقد الاجتماعي لدولة يوليو، لكن أوضاعهما تغيرت.
بات السؤال الحقيقي الذي يجب الإجابة عنه سريعًا: مصر لا تُحكم بالعقد الاجتماعي لدولة 23 يوليو القائم على الدعم والخدمات، وبالتأكيد انتهى سريعًا العقد الاجتماعي "لدولة يناير"، إذا جاز التعبير، في ظرف سنتين على الأكثر، فما هو العقد الذي يربط بين المواطن والسلطة في مصر الآن؟