
خيال مدبولي الذي يرى الدولة "كُشك بقالة"
حين وقعتْ عيني على تصريح رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بشأن عجزه عن وضع رؤية لشهر واحد مقبل، خامرني شك في كذب من نسبوا التصريح له، إذ تساءلتُ كيف يمكن لرجل جلس في مقعد رئيس وزراء دولة راسخة مثل مصر أن يقول مثل هذا الكلام الضئيل والغريب؟ لكن لمَّا ذهبت إلى جوجل ونقرت بعض الأزرار ظهر لي الخبر واضحًا لا لبس فيه.
يقول مدبولي بالعامية المصرية "محدش عارف بكره فيه إيه.. والله ما حد عارف يضع رؤية لشهر لقدام.. وهدف الحكومة تجنيب المواطن تداعيات الحرب الاقتصادية التجارية. كل يوم فيه تغيُّر، والناس مش عارفة تتصور عبء التحدي". وهو هنا يفتح بابًا للتساؤل والدهشة ليس فقط عن إدراكه هو لمهامه، أو طبيعة وظيفته، إنما عن الطريقة التي يفكر ويمضي بها نظامُ الحكم الحالي كله.
ابتداءً؛ إذا كان مدبولي يريد القول إن العالم في تغيُّر متسارع فهو محق دون شك، لكن إن كان هذا التغيُّر يؤذي مصر بالضرورة، فهذا ليس صحيحًا، فهناك مِحن وخطوب وملمات أصابت غيرنا، واستفادت مصر منها، على الأقل استفاد نظام الحكم الذي جاء بالدكتور مدبولي في منصبه، وذلك عملًا بالقاعدة التي تقول "مصائب قوم عن قوم فوائد".
كما أننا لم نرَ سلطةً في العالم كله تشكو من تأثير الظروف المتغيرة، كما تفعل السلطة في مصر، التي تبالغ في هذا التأثير، بل تحيل إليه كل إخفاق، وصرنا نظن لو أن هزة أرضية وقعة في موزمبيق لصارت مُتَّكأً لكل تعثر أو ضيق تقع فيه مصر.
في كل الأحوال، الدول ليست أكشاك بقالة يديرها أصحابها يومًا بيوم، ويجلسون يروضون الوقت في انتظار زبائن عابرين، إنما هي مؤسسة المؤسسات، ويجب أن تكون لها استراتيجية تنقسم إلى خطط، والخطط تتوزع على سياسات، ويكون دور السلطة أو من بيده القرار هو أن يعدِّل ويغيِّر ويرمم السياسات التي هي معرَّضة دائمًا لأن يطرأ عليها ما ليس في الحسبان، لكن تظل الخطة متمتعة بقدر مناسب من الثبات، بينما الاستراتيجية راسخة كالجبال.
من يضع استراتيجية عليه أن يأخذ في اعتباره تقلبات الظروف وهي مسألة كان يجب على مدبولي أن يدركها
هنا يثار التساؤل؛ ألا يعرف مدبولي أن الاستراتيجية والتخطيط هما أعلى درجة في التفكير والتدبير والترتيب ونطاق التأثير والأفق الزمني من "السياسة"؟ وكيف له أن يكون الرجل السياسي الأهم في البلاد بعد الرئيس، ويقع في هذا الخطأ أو الوهم؟ وهل هو هنا يتحدث عن نفسه؟ أم بلسان نظام الحكم كله؟
إن الاستراتيجية هي عملية فكرية منضبطة ذات مخرجات وغايات ووسائل محددة بوضوح، وهي تخدم الهدف السياسي الوطني، وتخدم السياسة في إطار التقلبات والتعقيدات والهواجس والغموض، وبذا يصبح التفكير الاستراتيجي هو القدرة على تطبيق الاستراتيجية في الواقع، ثم صياغة ما يخدم بنجاح مصالح الدولة، من دون تحمل مخاطر يمكن تفاديها.
هذا معناه أن من يضع استراتيجية عليه أن يأخذ في اعتباره تقلبات الظروف، سواء كانت داخلية أو خارجية، وهي مسألة كان على مدبولي إدراكها، خاصة أن "الاستراتيجية" من المفاهيم المتداولة في مختلف العلوم الاجتماعية، بأقلام وألسنة الباحثين والمتخصصين في الشؤون العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى لو ظلت عملًا سياسيًا محضًا، أو يجب أن تكون كذلك على الأقل، ومثل كل الأعمال يستلزم النجاح ممارسة حُسن تقدير الأمور، وهذا يتطلب من دون شك قدرًا لا يستهان به من الخيال.
يحتاج الأمر إذن حُسن تقدير من مدبولي أو أي مسؤول آخر في الدولة، وهي عملية تعني بالأساس توافر قدرة على إدماج مجموعة كبيرة من المعلومات الأولية الظرفية المتغيرة المتشابكة متعددة الجوانب، وهي التي تحول كثرتها وسرعتها وتداخلها دون تجميعها وتصنيفها.
والإدماج بهذا المعنى هو رؤية المعلومات الأولية، بوصفها عناصر في نمط واحد، مع تداعياتها، لرؤيتها بصفتها مؤشرات إلى الماضي والاحتمالات المستقبلية، حتى يمكن رؤيتها بصورة عملية، على معنى ما يمكن أن تفعل، أو ستفعل، أنت أو الآخرون، تجاهها، وما يمكن أن تفعله، أو ستفعله، هي لك وللآخرين.
وبذا تبقى هذه القدرة "موهبة" يفتقدها معظمنا، ولا يمكن تعليمها لمن لا يمتلكها، وتترك عملية صنع القرار الاستراتيجي دومًا مساحة أمام تصوراتنا وتصورات الآخرين واعتراضاتنا واحتجاجاتنا وندمنا على النتائج، وسط أشياء تقوم على التكهنات والفرضيات وتدعنا في شكوك مُحيِّرة.
فهل مدبولي، وفق هذا المسار، يفتقد إلى الموهبة والخيال خاصة أنه لا تنقصه المعلومات التي تضن بها السلطة على الشعب والصحافة ومراكز البحوث؟ أم المشكلة في أن نظام الحكم كله عاجز عن وضع استراتيجية، لأن من الصعب عليه تحقيق شروطها؟
الاستراتيجية تتطلب وضوح الأهداف وتكاملها وواقعيتها إلى جانب العقلانية والتخصص والاستمرارية والإلزام والمرونة، والابتكار والاعتماد على الذات، وهنا يكون للخيال دوره، وأعتقد أن كل هذه الخصائص هي التي تعوز نظام الحكم الراهن، لا سيما أنه لا يبدو معنيًا بوضع خطة ملائمة لظروفنا، وتتناسب مع مواردنا وخبرتنا السياسية وميراثنا التاريخي.
يتطلب التفكير الاستراتيجي وجود التفكير النقدي والتفكير الإبداعي، إلى جانب التفكير في التأثير المتبادل بين المنظومات والتفكير في الزمن والتفكير الأخلاقي، وهنا يكون للخيال دوره المهم في صياغة الاستراتيجيات، من زاوية المساهمة في زيادة الفهم، وتوسيع التفسيرات المنطقية الممكنة، ووضع الخيارات البديلة، وتحديد الفرص المحتملة. وكل هذا يصب في إطار صياغة الثالوث الاستراتيجي المتمثل في الأهداف والأفكار والموارد، وكل منها يحتاج إلى خيال.
ولو أن هناك خيالًا، لكانت هناك استراتيجية أو خطة، ولو توافرت الأخيرة ما كان يمكن للدكتور مدبولي أن يتحدث بهذه الطريقة، بل ربما ما جلس أبدًا على كرسي رئيس وزراء مصر، لأن الخطة كانت ستستدعي غيره، وكانت ستعفيه، مهما كانت الظروف المحيطة به، من أن يقول إنه لا يعرف ما الذي عليه فعله في الغد. لأن الخيال الذي يتم توظيفه في إنتاج الاستراتيجيات هو خيال منطقي خلاق، يبدو ضروريًا حتى يمكننا توقع ما يأتي، واستباق الأخطار والعمل على تفاديها، أو تحقيق المكاسب وتعزيزها، فهل يعلم الدكتور مدبولي ذلك؟ لا أظن أبدًا.
خلاصة القول؛ نظام الحكم في مصر الآن بلا استراتيجية، والحكومة بلا خطة، ولذا ينتظر مدبولي الفرج يومًا بيوم، والشدة يومًا بيوم، كما ينتظر سكان الصحاري القاحلة زخات مطر تحييهم، و أو زوابع العاصفة تودي بهم إلى الهلاك.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.