بأي قراءة تاريخية جادة، لم يكن معرض القاهرة الدولي للكتاب مجرد ملتقى لبيع وشراء الكتب والحصول على أحدث الإصدارات فحسب، بل كان حالة ثقافية كاملة، ومراجعات يجريها مثقفو البلد وعقولها للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
كان المعرض الشهير حالة احتفاء بالثقافة، ومناسبة لالتقاء عقول البلد، وفرصة للاستماع لأفكار جديدة وخيال جديد، يتجاوز في كثير من الحالات رأي ورؤية السلطة الحاكمة، أي سلطة.
هكذا كان تاريخ المعرض المهم وهكذا تعامل معه المثقفون دائمًا، بل زاد على ذلك أن أنظمة الحكم المختلفة فهمت هذه الرسالة بوضوح وتعاملت معها باحترام أو باستسلام، لا فرق. لكنَّ المؤكد أن معرض الكتاب لم يكن أبدًا مجرد "كشك" لبيع الكتب.
خلال السنوات القريبة الفائتة، وحتى النسخة الأخيرة من المعرض الأشهر عربيًا وإفريقيًا، تراجع دوره تمامًا، وتحول لحالة بيع وشراء وتجارة أكثر من أي شيء آخر. صحيح أن حركة بيع الكتب والاحتفاء بها ظاهرة جيدة ومهمة، لكنها ليست التعبير الأمثل أو الوحيد عن معرضٍ استضاف كبار المثقفين المصريين والعرب واحتفى بهم، ومنه خرجت أفكار ومعارك ثقافية وفكرية مهمة، وإليه كان يلتفت كل مهتم بالفكر والثقافة والإبداع، بل بمستقبل البلد والمنطقة العربية.
هناك رغبة رسمية في الاكتفاء بالبيع والشراء دون أن يكون من حق الجماهير الاستماع إلى مثقفي البلد وأفكارهم
في كل محاولات فصل معرض الكتاب عن حالة الثقافة والفكر والسياسة في المجتمع خصم جديد من دوره، ورِدَّة عن تاريخه الذي ارتبط بقدرته على صياغة الأفكار والاشتباك مع أزمات المجتمع، وإثارة جدل صحيٍّ حولها.
في الحضور الجماهيري الكبير لمعرض الكتاب ما يوحي بتعطش الناس للمعرفة، وهي صور إيجابية للغاية، ومؤشر مهم على تغيير كبير يحدث في وعي المجتمع، وبالأخص بين أجياله الشابة. لكنَّ الصور نفسها على الجانب الآخر كاشفة لأن هناك رغبة، رسمية، في الاكتفاء بالبيع والشراء دون أن يكون من حق هؤلاء الاستماع إلى مثقفي البلد وأفكارهم.
وبين المسموح والممنوع تضيع روح معرض الكتاب الذي خطه تاريخه في المقهى الثقافي والندوات واللقاءات المفتوحة مع كبار الكتاب والمبدعين والمفكرين، والمعارك الفكرية التي كان المجتمع يتابعها مستمتعًا.
في العام 1991 طرح الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في لقائه المفتوح في المعرض أزمة اللغة العربية ووصولها لمرحلة تعجز فيها عن التفاعل والتعامل مع العالم. من خلال القضية التي بدت بسيطة أوصل هيكل الرسالة للجميع، بمن فيهم الأنظمة الحاكمة؛ أن الشيخوخة طالت خطابنا وأفكارنا وقدرتنا على التعبير.
كان هذا الجدل الذي طرحه هيكل جزءا مما اعتبره في هذه المرحلة "أننا أمام سلطة شاخت في مقاعدها"، متحدثًا عن نظام الرئيس الراحل حسني مبارك في رسالته التضامنية إلى الصحفيين في معركة القانون 93 لسنة 1995.
برؤية مثقف مهم وكاتب شهير وفي نفس المكان المعروف، معرض الكتاب، كان الجمهور يطلع على رؤية جديدة تكشف أن الأنظمة العربية، وفي القلب منها النظام المصري، فقد قدرته على التواصل مع العالم. وأن لغته، ولغة المثقفين جميعًا، تخلفت عن الدنيا كلها.
كان لهذا التصور بعدًا هامًا حينما سيطرت الشيخوخة على الأنظمة التي تيبّست شرايينها بشكل كامل، وفقدت كل مبررات بقائها وكل صور قدرتها على التطور وانهارت تمامًا مع بداية الربيع العربي.
في عام 1992 وبين قاعات معرض الكتاب كانت المناظرة الشهيرة التي اعتبرها البعض سببًا رئيسيًا في اغتيال المفكر المعروف فرج فودة، مع عدد من المحسوبين على تيار الإسلام السياسي، على رأسهم الشيخ الراحل محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة وغيرهم. وحملت الندوة عنوانًا ساخنًا: مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية، امتلأت القاعة وخارجها بجمهور قُدّر بالآلاف.
وبأفكار شجاعة وجريئة طرح فودة رؤيته للدولة المدنية وانتقد كل محاولات جر مصر لدولة دينية تحكم باسم الحق الإلهي، واعتبر الخطاب الذي تحمله جماعات الإسلام السياسي السلفية خطرًا كبيرًا على مستقبل البلد.
دفع فودة حياته ثمنًا لكنَّ الجدل الذي طرحه بشجاعته وبين جنبات المعرض لم يتوقف
سخونة الجدل في القاعة التي اهتزت بهتافات مؤيدي الإسلام السياسي انتقلت إلى نقاش أوسع شمل المجتمع بأكمله، وأدى لإصدار فتاوى من شيوخ التطرف تعتبر فودة مرتدًا "يجوز قتله". وهو ما حدث بالفعل، ليدفع المفكر الشهير حياته ثمنًا لقدرته على التعبير عن أفكاره، التي احتضنها معرض الكتاب فأخرجها من كونها مجرد سطور في كتاب إلى مساحات أوسع وأعداد أكبر من الجمهور.
دفع فودة حياته ثمنًا لكنَّ الجدل الذي طرحه بشجاعته وبين جنبات المعرض لم يتوقف، واستمر الحوار الذي دار وقتها حتى يومنا هذا لكن بعد أن أصبح للراحل، وبعد سنوات طويلة من تطور الوعي، أنصار يدافعون عن حق مصر وأهلها في دولة مدنية لا تحتكر الدين أو الوطنية، دولة الحرية والقانون والمواطنة واحترام حقوق الإنسان.
الربط بين واقع الاستبداد الذي تعيشه مصر الآن وتراجع دور وتأثير معرض الكتاب أمر مفهوم. فلا يمكن لسلطة، أي سلطة، ترغب في السيطرة على كل كبيرة وصغيرة في المجتمع، من المؤسسات إلى الأفكار، ومن الأحزاب إلى الإبداع، أن تترك مساحة لمعرض الكتاب ليقوم بدوره في التأثير والتغيير وطرح الأفكار.
لكنَّ هذا التسلط لا يجب أن ينسينا أن المعرض التاريخي افتقد خلال سنواته الأخيرة جزءًا مهمًا من روحه وقدرته على صياغة الأفكار ومخاطبة العقول وطرح القضايا التي لا يمكن أن يطرحها ويعلنها للرأي العام إلا المنشغلون بالثقافة وبالحياة العامة، والمؤمنون بأن المجتمع يتطور كلما اكتشف فكرة جديدة، أو تمرد على فكرة تقليدية وعبثية، وما أكثر هذه الأفكار.
من الجيد بالتأكيد أن يذهب الجمهور للمعرض لشراء الكتب واقتنائها، لكنَّ الأهم والأبقى هو أن يعود معرض الكتاب بندواته ولقاءاته الفكرية إلى دوره المهم والرئيسي؛ حالة ثقافية كاملة، فكرة جديدة في مواجهة القديم والمستهلك، قدرة على شجاعة طرح الأفكار والإبداع، اكتشاف جديد لواقعنا وموقعنا من العالم، رغبة في التعرف على ثقافات العصر وأمل في اللحاق به.
وظني، وربما أملي، أن يعود المعرض الذي نقدره ونحترم دوره قريبًا إلى ما تستحقه الثقافة والمثقفون في مصر.