بنيامين نتنياهو- برخصة المشاع الإبداعي- فليكر

دول "الاعتدال" العربية تقدم طوق النجاة لنتنياهو

حرب الروايات في المواجهة المتصاعدة في فلسطين المحتلة

منشور الثلاثاء 31 يناير 2023

المواجهة ساخنة ومتصاعدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ نحو عام. ونقلت وكالات الأنباء العالمية عن الأمم المتحدة أن العام المنصرم، 2022، كان الأسوأ منذ العام 2005 من ناحية أعداد الشهداء من الفلسطينيين الذين تخطت أعدادهم المئتين، بينهم أطفال. بلغ الإحباط مداه في أوساط الشعب الفلسطيني الذي بدت قيادته "التاريخية" عاجزة عن اتخاذ أي خطوات لحمايته أو تحقيق مطلبه الأساسي في إنهاء الاحتلال.

لكن خلال شهر واحد فقط من وصول حكومة بنيامين نتنياهو للحكم، بما تضمه من وزراء مدانين بالعنصرية والتطرف والسعي لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم ونفي وجودهم، قتلت قوات الاحتلال 30 فلسطينيًا، وأعلنت عن خطط لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية والقدس المحتلة، واتخذت إجراءات عقابية بحق السلطة الفلسطينية، لتجرؤ مسؤوليها على التوجه إلى محكمة العدل الدولية من أجل إدانة جرائم الاحتلال.

في جنين بالضفة الغربية، هاجمت قوات الاحتلال قبل أيام المدينة وقتلت تسعة فلسطينيين، زعموا أن غالبيتهم كانوا مسلحين وأعضاء في تنظيم الجهاد، وهو ما نفاه الفلسطينيون وقالوا إنهم من المدنيين، ومنهم سيدة تجاوزت الستين. في اليوم التالي مباشرة، استل الشاب الفلسطيني خيري علقم مسدسًا على نحو منفرد، وتوجه نحو مستوطنة في القدس، وفتح النار على مجموعة من الإسرائيليين الذين أنهوا للتو الصلاة في كنيس مساء الجمعة، وقتل سبعة، منهم طفل يبلغ من العمر 14 سنة.

هنا تباينت الروايات وردود الأفعال بشأن الهجومين، ما بين الاحتفالات الواسعة التي سادت الأراضي الفلسطينية المحتلة باعتبار ذلك رد فعل عادل ومشروع على قتل شهدائهم في جنين، ورد الفعل الغربي عمومًا، الذي ركز على "بشاعة" الهجوم "الإرهابي" الذي وقع في القدس ومقتل "مدنيين"، في يوم تشاء الصدف والأقدار أن يتزامن مع اليوم العالمي لإحياء ذكرى الهولوكوست.

سعت الآلة الإعلامية الإسرائيلية للتضخيم من مدى "كراهية" الفلسطينيين لإسرائيل، وتصوير أن ليس ثمة علاقة أصلًا بين هجوم جنين وهجوم القدس الشرقية، وأن المقارنة بينهما لا تجوز أصلًا. فعملية جنين إجراء "مشروع" لمواجهة الإرهابيين، بينما ما قام به الشاب عليقات هو "قتل بدم بارد" لمدنيين انتهوا للتو من أداء الصلاة قبل بدء يوم السبت المقدس لدى اليهود.

تعمدت وكالات الأنباء العالمية وكبريات الصحف الأمريكية تأخير الإشارة إلى الصلة بين هجوم القدس الشرقية والاجتياح الإسرائيلي لجنين، على اعتبار أنه لا يمكن المساواة بين هجوم استهدف مسلحين فلسطينيين في الرواية الإسرائيلية، مقابل قتل إسرائيليين على نحو عشوائي أثناء خروجهم من مكان للعبادة.

ردود الفعل الغربية والأمريكية الرسمية كانت روتينية بعد عملية قوات الاحتلال في جنين، وصدرت البيانات التي اكتفت بالتحذير من عواقب تصعيد العنف والدعوات إلى ضبط النفس. فقتل الفلسطينيين على يد الاحتلال أضحى روتينًا.

لكن الانحياز كان سافرًا للرواية الإسرائيلية في أعقاب هجوم القدس، وسارع الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الاتصال بنتنياهو لتأكيد إدانة واشنطن "للهجوم الإرهابي البشع في القدس والذي أدى لخسارة سبعة أرواح أبرياء". واصفًا الهجوم بـ"هجوم على العالم المتحضر".

"الأبرياء" في وصف بايدن هم مستوطنون محتلون يدعمون قتل الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال ونفيهم. وأرواح الذين قتلتهم قوات الاحتلال في جنين هي أيضًا بريئة في نفوس الفلسطينيين وأمهاتهم وداعميهم في العالم العربي والغربي والذين يصفونهم بـ"المقاومة".

وإذا كان الهجوم الأخير في القدس المحتلة سقط فيه "مدنيون"، فالقتل يومي تقريبًا للمدنيين الفلسطينيين بلا حساب، على مدى سنوات الاحتلال الطويلة من دون أن تتحرك مشاعر "العالم المتحضر" الذي يعيش فيه السيد بايدن وداعمو إسرائيل في الإعلام الغربي.

 الجديد بعد عملية القدس المحتلة التي أودت بحياة سبعة إسرائيليين كانت البيانات التي صدرت من الدول العربية "المعتدلة"

ويغيب عن بايدن رؤية أن هذه المعايير المزدوجة الفاضحة في التعامل مع أرواح الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين، هي من ضمن العوامل الأساسية التي تعمّق الصراع وترسخ مشاعر الظلم لدى الفلسطينيين، للدرجة التي تبرر الاحتفالات الواسعة التي شهدتها الأراضي المحتلة بعد عملية القدس، أو بعد العملية اللافتة التي نفذها الطفل الفلسطيني محمد عليوات، البالغ 13 عامًا، في اليوم التالي مباشرة لهجوم الكنيس في القدس.

الفارق بين علقم ذي الواحد وعشرين ربيعًا وعليوات ليس كبيرًا، كلاهما في مقتبل العمر. لكن بايدن لا يراهما. والتعاطف المبدئي مع إسرائيل يجعل قتلى الإسرائيليين أغلى ثمنًا وأكثر أهمية من عمليات القتل اليومي والاحتلال العنصري الذي يرزخ تحته الفلسطينيون. لا يعلم بايدن معنى الاحتلال الذي هو ببساطة إذلال يومي للفلسطيني وتذكرة دائمة أن دمه وحقوقه أقل قيمة.

وبينما لا يعد موقف بايدن والدول الغربية صادمًا أو جديدًا، وإن كان مؤلمًا في عنصريته الفاضحة، فإن الجديد بعد عملية القدس المحتلة التي أودت بحياة سبعة إسرائيليين كانت البيانات التي صدرت من الدول العربية "المعتدلة" التي تربطها الآن علاقات بإسرائيل.

عرب "معتدلون"

الإمارات العربية المتحدة رائدة التطبيع في العالم العربي، والاتفاقيات الإبراهيمية كان بيانها الأكثر فجاجة في تبني الرواية الإسرائيلية، في اعتبار ما حدث في القدس "هجوم إرهابي"، من دون أي إشارة لاستشهاد الفلسطينيين في جنين ومسؤولية حكومة المتطرفين والعنصريين في إسرائيل عن دورة التصعيد الأخيرة. كما زادنا حكام الإمارات من الشعر بيتًا بالتعبير عن خالص تعازيها "للحكومة الإسرائيلية وشعبها الصديق"، ومواساتها لأهالي ضحايا هذه "الجريمة النكراء".

مصر والأردن والسعودية وسلطنة عمان والبحرين والمغرب لم يصفوا الهجوم صراحة بـ"الإرهابي" ولكنهم أكدوا "الرفض والاستنكار" لعملية القدس مع "إدانة لكافة العمليات التي تستهدف المدنيين"، والإشارة إلى ضرورة وقف التصعيد عمومًا في الأراضي المحتلة.

هذه الحكومات العربية "المعتدلة" تربطها جميعًا علاقات وثيقة بالولايات المتحدة، وزاد من حجم مأزقها تزامن جولة التصعيد الحالية مع زيارات متتالية لكبار المسؤولين الأمريكيين المنطقة بداية بمستشار الأمن القومي جاك سوليفان ثم مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز، وأخيرًا وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.

ليس سرًا أن إدارة بايدن لا تشعر بالارتياح في التعامل مع نتنياهو وحكومته، واليهود الليبراليون في الولايات المتحدة يعارضون الحكومة الحالية باعتبارها سلفية متطرفة دينيًا تبتعد عن رؤيتهم لإسرائيل كدولة ديمقراطية، وبغض النظر عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

وقبل الموجة الأخيرة من التصعيد، كانت المظاهرات المعارضة لنتنياهو وحكومته تنتشر في مختلف المدن الإسرائيلية احتجاجًا على خططه لإضعاف المحكمة العليا في إسرائيل، والسماح للبرلمان بتجاهل قراراتها. والمعروف أن تصعيد المواجهة مع الفلسطينيين هو أسلوب تقليدي تلجأ له الحكومات الإسرائيلية المختلفة عندما تواجه أزمات داخلية.

يبقى السؤال إذا ما كان هذا التعاطف الأمريكي الصارخ مع إسرائيل في أعقاب هجوم القدس وتجاهل قتلى الفلسطينيين في جنين والجرائم اليومية، كذلك البيانات العربية "المعتدلة" التي استنكرت الهجوم، ستساعد في سرعة الإطاحة بهذه الحكومة بمن فيها من وزراء أعضاء في منظمات إرهابية مثل إيتمار بن غفير، أم ستقدم لها طوق النجاة وتطيل من فترة بقائها وتماديها في ارتكاب المزيد من جرائم القتل والاستيطان بحق الفلسطينيين؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.